متابعات: يجسد الكاتب السوري يوسف الخضر، عدة شخصيات مختلفة المنشأ والبيئة، لتعيش جميعها رحلة قاسية مع التشرد، حيث فقدان المأوى والأهل ومعايشة ظروف الحياة القاسية، في روايته ”الهامستر“ الصادرة عن دار إيبيدي 2021.
وتحمل الرواية أدوات التحليل للسُلّم الاجتماعي، وتكشف عن الطريقة الهشة التي تمضي بها معادلة الحياة، بما تظهرها من تفاصيل قاسية تتصدى لها أجساد منهكة، ونفسيات محطمة من مجمل الظروف التى يعايشونها.
كما وتناقش الرواية قوانين العشيرة المفروضة على النساء في المجتمعات العربية، وتظهر بشاعة المشهد الاجتماعي في التكيف مع هذا. حيث تعتمد الأحداث على السرد المونولوجي البائس، المحمل بالحزن والوحدة والتشرد، بما يقدمه الكاتب، بطريقة ضمير الأنا المتكلم.
في مجموعة "سماء بعيدة كقبر مفتوح" لعامر الطيب .. التقرب من الموت لفهم الحياة
"قبر في الأرض.. قبر في السماء".. مجموعة شعرية تجسد واقع لبنان
ويمكن القول، إن أدوات الغموض كانت باردة في البداية، وازدادت وهجا في الثلث الأخير من الرواية. فيما اعتمد الكاتب على تقديم الأحداث بلغة مسترسلة، متنوعة ما بين السرد والشاعرية، مشكلا خلطا فنيا مشبعا بالحس والعاطفة والمشاعر المتناقضة ما بين الحزن والأمل، على مدار 128 صفحة من القطع المتوسط.
ويتضح إلمام الكاتب بصور مختلفة للصراع الاجتماعي مع التشرد، وقدرة على دمج هذه الحالات لصنع مجتمع كبير يعيش أسفل الحياة.
أشكال مختلفة للتشرد
ومنذ البداية، يسخّر الكاتب تفاصيل الرواية ليظهر معاناة اللاجئ والمتشرد، فجبرائيل الشاب السوري الذي يفر من بلاده بسبب الحرب، إلى لبنان، وهنا تبدأ قصة انكسار جديدة، فيبدأ جبرائيل طريقا غائرا مع التشرد في الشوارع اللبنانية، ويتخذ شارع الحمرا في لبنان مكانا للمبيت، ويدخل في صراعات كبيرة، مع يوميات الشارع، تصل به إلى تفضيل الانتحار عن الحياة.
ومع كل ذلك البؤس، يجد جبرائيل من يمنحه لحظات الدفء، فيكون محمد بائع الورد المتجول محتضنا له في مخيم صبرا، ليتعرف من خلاله على تفاصيل حياة المخيم، وطريقة المعيشة الرمادية التي يحياها الناس هناك.
ويحاول جبرائيل أن يبدأ حياة جديدة في المخيم، تمتلئ بمحتوى مغاير عما يسكبه الشارع في وعيه، خاصة بعد أن أحس بالقرب من جوليا، وهي متشردة أخرى، تبيت في غرفة محمد، بالإضافة إلى امرأة إثيوبية، وشخصيات عديدة تجتمع في غرفة ضيقة، وما يجمعهم هو تاريخ مع التشرد.
ولم تكن غرفة المخيم محطته الأخيرة، فيكون ظهور ريا بداية لمرحلة جديدة في بناء السرد عند يوسف الحضر، حيث تنتقل كافة أصوات الصراع من المخيم إلى المدينة، إذ يتطرق السرد إلى صراعات داخلية شهوانية يحاول جبرائيل جمحها، نتيجة احتكاكه بريا، وخيالاته عن جسدها، كما أنه يقف على بداية مغامرة عاطفية مع صديقتها الإيطالية المقيمة في الغرفة المجاورة لغرفتها داخل الفندق، لكن ملازمة جوليا لخياله كانت تقمع هذه الرغبة داخله.
الريف والمدينة
فيما يفرق الكاتب بين تفاصيل الحياة في الريف، حيث حياة جبرائيل القديمة وطفولته، والحياة في المدينة من حيث البساطة والتعقيد، يوضح أثر سرعة الأحداث في المدينة على ذات المرء، والقدرة على اللعب في تكوينه، بينما على العكس تماما، تبدو الأحداث مكررة في الريف، بطيئة وقابلة للمعايشة عدة مرات.
يكتب الخضر:“ الحياة في الريف بسيطة لدرجة أن ما تألفه اليوم، يحدث لك مرارا، حتى بعد ثلاثة عقود، أما هنا فالحياة معقدة لدرجة أنك لن تكون أنت ذاتك بعد ثلاثة أيام“.
كما ويركز الكاتب على صفات المخيم، حيث يوصف بشكل واضح خريطته، ليظهر شكل الحياة المعقدة والغريبة، التي يحياها سكان المخيمات.
لقيطة
وبالإضافة إلى جبرائيل، يتطرق الكاتب إلى قصة جوليا، التي يجدها رجل في مكان عام، ويتكفل بتربيتها منذ شهور عمرها الأولى، وعلى مدار سنوات يخبئ عنها تاريخها، وحقيقة أنها لقيطة، حتى يرحل عن الحياة، وتكبر عنده، لتقوم زوجته بإخبارها بقصتها، وطردها من المنزل، ليكون التشرد في المخيم مصيرها.
كما تطرق إلى شخصية مؤثرة أخرى تجسدت في عامل محطة البنزين، الذي طرده صاحب المحطة دون أي اهتمام لظروفه، فكان مصيره التشرد.
مكب نفايات
ويوغل الكاتب في مخيلة المتشرد، ليلامس جزءا كبيرا من معاناته، فينقل صرخة الهوية والاسم اللذين يصبحان دون قيمة: ”ما الذي نفعله بأسمائنا، إن لم يكن لدينا من ينادينا بها“.
كما ويربط التشرد بهوية جديدة يعيش المتشرد من خلالها، بتبيان العلاقة بين المتشرد والمكب، وكيف أن هذا المكب هو عنوان بائس، يتعرف الناس إلى المتشردين من خلاله، وهذا بحد ذاته حماية من هاجس الموت من الجوع لديهم: ”لقد صار المكب جزءا مني وصرت جزءا منه، لدرجة أنني إذا جلست في مكان آخر، أشعر أن أحدا لن يعرفني، ويشعر بوجودي، حينها سأموت من الجوع“.
جريمة شرف
وفيما كان لريا قصة أكثر بؤسا، فتضطر لمغادرة بيت أهلها، بسبب القمع والقيود الممارسة ضد المرأة في المجتمعات العربية، وحين تقرر بدء حياتها في المسرح والفن، تجمعها الصدفة بجبرائيل فتحتضنه، وتساعده على العمل وبدء الحياة. لكن النهاية المأساوية لريا مع أخيها، نقلت الصراع النفسي للرواية إلى منطقة البوليسية، وانتقلت أصوات الصراع كلها تجاه جريمة شرف غامضة.
يكتب الخضر: ”لم تر فيّ سوى أنني جزء من شخصيتها التي حاولت أن تبنيها بعيدا عن أنياب الأفكار الموروثة وسياط العشيرة. وهي التي قالت لي يوما: شيئان على وجه الأرض لم تغيرهما أيادي البشر … زرقة البحر والصدفة“.
وفي رواية ”الهامستر“ الاجتماعية الواقعية، تجسيد معمق لشكل من أشكال الكارثة التي يعيشها جزء من البشر حولنا، ونراهم كل يوم في الشارع، لكن وبقليل من الاكتراث تجاههم، تمضي الحياة. فأراد الخضر طرح أشكال مختلفة من المشردين، موضحا كيف دفعت الظروف كلا منهم لهذا الطريق.