انعقد المجلس المركزي الفلسطيني (الدورة 31) بعد ثلاثة أعوام على غيابه، أو تغييبه، على الرغم من المقاطعة الواسعة له (من ناحية النصاب السياسي)، بسبب إصرار القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، على عقده من دون توافق وطني، وتوجهها لإحلاله، أو تنصيبه، بديلا عن المجلس الوطني في انتخاب رئيس للمجلس الوطني، من دون حضور ذلك المجلس، وانتخاب أعضاء للجنة التنفيذية للمنظمة وهو ليس من اختصاصه، وفي تعارض مع النظام الداخلي لمنظمة التحرير، إضافة إلى تعمدها عقد الاجتماع بعد تحللها من التوجه نحو تنظيم انتخابات للمجلسين الوطني والتشريعي والرئاسة.
ومن مراجعة قرارات دورات المجالس المركزية السابقة يمكن ملاحظة أن تلك القرارات يتم نسخها نسخا، بنسبة تتراوح بين 80 ـ 90 بالمئة، وأن تلك القرارات مجرد انشاءات سياسية، أو تتم إحالتها للجنة التنفيذية التي لا تفعل شيئا، ما يعني أن الاجتماعات تكرس فقط لتجديد شرعية القيادة الفلسطينية، وكصندوق بريد للرسائل التي تريد توجيهها للأطراف المعنيين.
ومثلا، فإن دورات المجالس المركزية السابقة، ومعها قرارات الدورة 23 للمجلس الوطني الفلسطيني (رام الله، 2018)، كانت تحدثت عن تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، وعن تفعيل المنظمة، وإنهاء الانقسام. وهي منذ العام 2015 (الدورة 27 للمجلس المركزي) نصت أيضا على وقف التنسيق الأمني، وإعادة النظر بالاعتراف بإسرائيل، وتعزيز المقاومة الشعبية، ردا على تنصلها من التزاماتها في اتفاق أوسلو، وإصرارها على المضي في فرض الاحتلال كأمر واقع، سيما محاولاتها تهويد القدس وتعزيز الاستيطان في الضفة وإبقاء هيمنتها الإدارية والأمنية والاقتصادية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967. بيد أن المشكلة أن أيا من ذلك لم يحصل، ويأتي ضمن ذلك التراجع عن قرار وقف التنسيق الأمني وقطع العلاقات مع الطرف الإسرائيلي ورفض استلام أموال المقاصة الذي تم اتخاذه في أيار/مايو (2020) وتم التراجع عنه بعد أربعة أشهر أي في أيلول/سبتمبر (2020)، بقرار من الرئيس، الذي يتفرد بتقرير السياسات والخيارات، سيما أنه يجمع في شخصه رئاسة الكيانات الثلاث (المنظمة والسلطة وحركة فتح)
المشكلة في الاجتماع الحالي أيضا، أن القيادة الفلسطينية التي استبدلت المنظمة بالسلطة، أي التي أزاحت المنظمة من كونها المرجعية للعمل الوطني الفلسطيني لصالح كيان السلطة، كرست في اجتماعات دورات المجلس المركزي مؤخرا تحويل صلاحيات المجلس الوطني إلى المجلس المركزي، كأنها في ذلك مصممة على سياساتها المتعلقة بتهميش المنظمة.
ما يفترض لفت الانتباه إليه، في غضون كل ذلك، أن قرارات المجلس المركزي الفلسطيني، وكل الخطابات السياسية الفلسطينية، مؤخرا، تثير فكرة قديمة، مفادها أن القصة لا تتعلق فقط بالإنشاءات والبيانات والشعارات، بغض النظر عن أهميتها، أو عدالتها، وإنما هي تتعلق أساساً بطبيعة البنية، أي الحامل لهذه الأفكار أو الإنشاءات، إذ إن الخلل في طرح فكرة معينة يمكن مراجعته أو تصحيحه أو تجاوزه، في حين أن الخلل في بنية وتركيبة الحركات السياسية يؤدي إلى كوارث.
ومثلاً، فإن الفلسطينيين لا تنقصهم عدالة القضية، فهي من أكثر القضايا العادلة التي عرفها العالم، طوال القرن الماضي، كما لا تنقصهم الشجاعة، ولا بذل التضحيات، فقد قدموا الكثير منذ مئة عام حتى الآن. ما ينقص الفلسطينيين فقط، عدا تدارك ضعف الإمكانيات والمعطيات الموضوعية غير المواتية، وهما ليستا بأيديهم، فإن ما ينقصهم هو البنية السياسية التي تمتلك الحيوية والمبادرة، والقدرة على تجديد ذاتها، وإدارة أحوالها بالطريقة المناسبة.
هكذا ليست المشكلة فيما جاء في بيان المجلس، في مراوحته بين ثوابت وطنية، للمواربة، وسد الذرائع، وبين استعداد ملحوظ للتعاطي مع أي لفتة من إسرائيل أو من الولايات المتحدة، تعيد تدوير عجلة التسوية، أو تحسن من مركز السلطة الفلسطينية إزاء شعبها. وفي الواقع فإن المشكلة الأكبر والأهم إنما تكمن في أنه ليس لدى القيادة الفلسطينية سوى الأقوال، وأنها تبدو كعبء، أو كعقبة كأداء، أمام تطوير بني العمل الوطني الفلسطيني، وكعامل إحباط للفلسطينيين، إذ هي ليس فقط لا تفعل شيئاً لتأهيل شعبها، وكياناته السياسية، لمواجهة المشكلات والتحديات التي تعترضه، وإنما هي باتت تشكل قيدا عليه، وكابحا لتطور قدراته ونضالاته.
على ذلك فإن الفلسطينيين، كما توضح في مجادلاتهم حول اجتماع المجلس المركزي، باتوا في وضع صعب، فهم من جهة غير قادرين على التحكم بحركتهم الوطنية، أو بتوجهاتها، وخياراتها، التي تمس وجودهم ومستقبلهم، ومن جهة ثانية، فإن تلك الحركة أضحت متقادمة ومتكلسة، وفوق كل ذلك فهي تحولت إلى مجرد سلطة على شعبها فقط، تحت سلطة الاحتلال، بمعنى أن الفلسطينيين اليوم في وضع جديد، شاذ ومعقد واستثنائي، ما يفرض عليهم تحديات أو أسئلة جديدة، تفترض منهم تقديم إجابات عنها.
هكذا فبعد هذا الاجتماع لابد ثمة تداعيات، وعلى الأرجح فإن الفلسطينيين سيجدون أنفسهم أمام مزيد من الانقسام والاختلاف، بين طرفين متنازعين يصر كل منهما على أنه هو صاحب البيت، وأنه هو وحده الذي يمتلك الشرعية، وبين طرف ثالث يدعي أن الحل يكمن في إصلاح منظمة التحرير، وتفعيلها، وهي الدعوة التي لا تجد صداها عن الطرفين/السلطويين المعنيين، والتي لا يوجد معطيات عربية ودولية تحتضنها، وبالتأكيد سيكون ثمة وجهة نظر أخرى تنطلق من إدارة الظهر لهذه الثلاثية، وللصندوق المفاهيمي والكياني الذي انبنى عليه العمل الوطني الفلسطيني في الحقبة الماضية، لحث بدائل أو خيارات من نوع مختلف تتأسس على استعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني، وفق رؤية تؤسس لإجماع وطني فلسطيني يقوم على وحدانية الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، بوجود احتضان عربي ودولي أو من دونه، إذ الفكرة الأساسية إعادة المبادرة ليد الشعب الفلسطيني.