خُلاصة الشهور الأخيرة
نشر بتاريخ: 2018/03/21 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 08:30)

كان لافتاً طوال سنوات الحوار الفاشل لإنهاء الانقسام، أن طرفي الخصومة، لا يطيقان ثقافة الدولة، وأن كلاً منهما، يخشى على نفسه، من أن تسري عليه محددات وشروط هذه الدولة، في قيامها وهيبتها وفاعليتها كإطار جامع. هذا إن لم يكن كادرهما المشارك في الحوارات، لا يمتلك أصلاً، الحد الأدنى من الثقافة التي تجعله يعرف كيف تقوم الدولة.

بسبب ذلك، وعلى الرغم من وضوح النصوص، بعد الإعلان عن التوصل الى كل اتفاق للمصالحة؛ كان السجال يعود سريعاً وساخناً حول المسائل الفرعية التي تخص الطرفين، كمسألة الموظفين بالنسبة لحماس، والجباية بالنسبة للسلطة. وبالطبع، يكمن وراء مشهد السجال موقف عباسي مُضمر، ينبثق عن مقاصد يعلمها هو ويعلمها شركاؤه فيها، داخلياً وخارجياً، ويستنبطها المعنيون بكشف مكائده!

يصح هنا، التركيز على نقطة خطيرة، وهي أن الطرفين الحمساوي والعباسي، لا يطيقان القانون ولا فكرة الديموقراطية ولا كابوس التداول على السلطة، ولا يحتملان غيمة صيف تُذكّرهما بضرورة التمكين للإرادة الشعبية، وإنفاذ القانون. فالاحتكام الى الشعب، هو محض عنصر لازم للتشدق في الكلام اليومي، لكي يتجمل به السياسي المُفرغ من معنى السياسة وثقافتها!

كان الطرفان يبحثان عن التمكين لنفسيهما ولمواليهما، ولأساليبهما في الحكم، ولخياراتهما في الناس ولحلقاتهما الضيقة. وعلى هذا الصعيد، وبحكم ضآلة العلم بمعنى الدولة، لم يخطر في بال حماس في غزة، أن مشروع المصالحة يتعلق بكيان وطني، الغالبية العظمى من جغرافيته وشعبه في الضفة، وأن شعبنا في الضفة له مطالب تتعلق بالعدالة والحريات والتجاوزات الأمنية والفساد الإداري وملاحقة ظواهر التربح واعتصار المجتمع والرشى والخاوات في الميدان التجاري لتسهيل حركة البضائع والتنقلات، والحقوق السياسية للمواطنين. فقد ظلت حماس تراوح في مربع الموظفين، بينما السلطة تراوح في مربع الجباية، فيما هناك في خلفيات كل طرف، حاخام أكبر، يجهز الجوكر لرميه في وجه الآخر، في اللحظة المناسبة، لكي لا يتوصل الصغار الى أية آلية للوفاق الوطني. وبالطبع ستكون سحنة أي متخلف، مثل عزام الأحمد، جاهزة في كل يوم للاحمرار والاخضرار، ولطرح موقف جديد ولزعيق جديد!  

حيال هكذا وضع، يكون ساذجاً من يعتقد أن هناك مصالحة، طالما بقيت الخلفيات المُحبطة لها، فعالة من وراء الصورة. إن أصحاب هذه الخلفيات مستعدون لقلب الطاولة،  في حال اقتربت التطبيقات من إنجاز ما. وهذا الذي حصل، عندما افتُعلت متفجرة الحمد الله، أياً كان الطرف الذي افتعلها!

في وثيقة الوفاق الوطني التي وُقّعت في القاهرة يوم الرابع من مايو 2011 هناك خطوط عريضة وبعض الخطوط التفصيلية للشروط القانونية والدستورية للمصالحة. لكن القوتين القهريتين المتخاصمتين، عندما وجدتا نفسيهما مضطرتين للتماشي مع المحاولات المصرية لتحقيق المصالحة؛ كانت كل منهما تراهن على لؤم الأخرى، لكي تفلت من الاستحقاق الوطني. وفي الأشهر الأخيرة، رجحت الكفة لصالح حماس في ميزان المصداقية، ولم يكن جديد حماس العقلاني، منبثقاً عن منظومة التفكير السياسي التقليدي لجماعة "الإخوان". فتلك منظومة لم تُبدع إلا في إيذاء الجماعة وتخريب بيوت منتسبيها وإيلام أسرهم ورفع منسوب الأحقاد في المجتمع الواحد. فهي في المشرق العربي، لا تملك فظنة ورشاقة شقيقاتها في تونس والجزائر والمغرب!

 كان جديد حماس، منبثقاً عن رؤية جديدة لقيادة جديدة في غزة، وهذه رؤية معطوفة على حقائق الحال في القطاع ومآلات تجربة الحكم الحمساوي فيه. أما قوة السلطة العباسية القهرية، فقد كانت ولا تزال تناور، لكي تفلت من الضغوط، وجوهر اهتمامها هو استمرار منظومة الحكم ذي الحلقة الضيقة، بطبيعته الباذخة وفساده واستغلاله للنفوذ السياسي لممارسة العنجهية وإدارة المصالحة العائلية لعباس، وغطرسته المثيرة للاحتقار بحكم وضاعتها أمام الاحتلال واسترضائه بالتواطؤ الأمني الفعال. وهذه منظومة لا شرعية دستورية لها، ولا ذريعة سياسية، ولا شرعية ثورية موصولة بتاريخ الكفاح المسلح. ثم إن عباس، عندما يناهض الاحتلال لفظاً وتصريحاً، ويطلب قيام الدولة الفلسطينية، لفظاً وليس عملاً  ببناء مؤسات الدولة؛ لا يفعل أكثر من الامتناع عن قول ما لا يستطيع قوله. فلو كان هناك مسرب للانقلاب عن فكرة الدولة، فإنه ومعه كل من يكره المؤسسات ويرفضها ويكره القانون والرقابة، والأطر الدستورية حتى ولو كانت شكلية، سوف يستل نفسه من السياق كله، لكي يصارح بما في داخله ويرفض مشروع الاستقلال الوطني الحقيقي!

الحمساويون بدورهم، لم يُظهروا وعياً سياسياً كافياً، ولا استيعاباً لثقافة الدولة أثناء السجال حول ثنائية الجباية والموظفين. فلم يقولوا مثلاً، للطرف المصري ولعباس وللرأي العام الفلسطيني، إننا معنيون بكل شعبنا وأن الترجمة الحقيقية لما نحن معنيون به، هو البدء بالتقدم الثنائي، على طريق إنفاذ القانون والعمل بالوثيقة الدستورية في الضفة قبل غزة أو بالتزامن معها. عندئذٍ سيكون وصول وزير العدل الى مقر الوزارة في غزة، مشروطاً بتنفيذ الأحكام القضائية التي  تعطل السلطة التنفيذية  تنفيذها في الضفة ويتأذى من التعطيل مواطنونت أصحاب حقوق، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان. وأن يكون وصول وزير العليم الى الوزارة، متزامناً مع تعليق العمل بكل مراسيم ما يسمى القوانين بقرارات التي اتخذها عباس بشأن مؤسسات التعليم. وأن يكون اجتماع الحكومة في غزة، مقروناً بمشروع قرار لإعادة هيكلة الجهاز القضائي، وأن يكون وصول وزاء الشؤون الاجتماعية والعمل وغيرهم مقروناً بتعليق كل المراسيم بقوانين، التي حلّت جمعيات وعينت غير ذي تأهيل وفتكت بالبنية الاجتماعية ــ السياسية والاقتصادية. وستكون كل هذه الخطوات الحيادية لصالح الشعب الفلسطيني وليست لصالح أي طيف حصراً، وليست تطبيقاً لأجندة حزبية.

بحكم طبائع الحياة، إن من يختار تصغير متطلباته، يستصغره الطرف الآخر ويتقوّل عليه ويتهمه ويتطاول عليه، وهذا هو استخلاص الشهور الأخيرة!