في لحظة دولية بالغة التعقيد، حيث تتداخل المصالح وتتضاءل المعايير الأخلاقية أمام سطوة القوة، برز الموقف الجزائري في مجلس الأمن الدولي كصوت راسخ للمبادئ والقانون، مؤكداً على عمق العلاقة التاريخية بين ثورة المليون ونصف المليون شهيد والقضية الفلسطينية. لقد شكل هذا الموقف، المتمثل في تمرير قرار مجلس الأمن الدولي 2803 بعد إدخال تعديلات جوهرية تصب في صالح الحقوق الفلسطينية، نقطة تحول أكدت حنكة الدبلوماسية الجزائرية وواقعيتها السياسية. غير أن هذا الإنجاز السياسي، الهادف إلى وقف الإبادة وحماية المدنيين، واجه حملة انتقادات غير مبررة من قبل بعض الأطراف، ما استدعى تحليلاً معمقاً لثوابت الموقف الجزائري والرد على هذه السجالات بوعي وهدوء سياسي. إن الموقف الجزائري تجاه فلسطين لا يمكن فهمه بعيداً عن فلسفة الدولة الجزائرية المؤسسة على ثورة التحرير المجيدة، التي أكدها بكر أبوبكر في تحليله، حيث تقوم هذه الفلسفة على مبدأ الثبات ودعم الكفاح المسلح، وفي الوقت نفسه دعم وحدة الصف الفلسطيني تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. العلاقة ليست مجرد تضامن عابر، بل هي امتداد لـ "حكاية تاريخ لا تنكسر وإرادة لا تُساوَم"، كما وصفها سامي إبراهيم فودة. الجزائر تنظر إلى القضية الفلسطينية كقضية وجود، لا قضية حدود، وكامتداد لمعركتها ضد الاستعمار. لقد تجسد هذا الالتزام عملياً وتاريخياً، حيث كانت الجزائر، وفقاً لـ د. تحسين الأسطل، "نموذجاً فريداً في نصرة القضايا العادلة"، ويُعدّ تحويل مقر الثورة الجزائرية في القاهرة إلى مقر للثورة الفلسطينية (حركة فتح) بعد استقلال الجزائر، تجسيداً عملياً وواضحاً لوحدة المصير والكفاح بين الشعبين الشقيقين. هذه الثوابت جعلت الجزائر، كما أكد فراس الطيراوي، "ضمير فلسطين الثائر"، الذي يرفض المساومة ويتمسك بالحقوق. إن الموقف الجزائري الحالي، إذن، ليس خياراً جديداً بل هو تجسيد للمبدأ القائل بأن "صوت العقل" يجب أن يرفع الشرعية الفلسطينية فوق كل الخلافات الفصائلية، وهو المعنى الذي قصده عبد الحميد عبد العاطى حين أشار إلى أن "الجزائر ترفع صوت العقل: لا شرعية إلا منظمة التحرير"، تأكيداً على أن هذا الالتزام بمرجعية منظمة التحرير هو ما يحافظ على القضية الفلسطينية من التشرذم. فادى قدرى أبو بكر عزز هذه الرؤية بقوله إن الجزائر "التي تبلورت هويتها المعاصرة من تجربة الثورة، جعلت الدفاع عن القضايا العادلة جزءاً ثابتاً من سياستها الخارجية منذ الاستقلال". هذا العمق التاريخي يفسر لماذا تتعامل الجزائر بحذر مع أي محاولة لتقويض الشرعية الوطنية، حتى لو جاءت باسم "المقاومة".
في خضم المأساة الإنسانية التي يشهدها القطاع، كان التحدي الأكبر للدبلوماسية الجزائرية هو استغلال توافق دولي جزئي لوقف الإبادة، مع الحفاظ على الثوابت الفلسطينية. الموقف الجزائري لم يقتصر على تمرير القرار الأمريكي، بل جاء بعد جهد مضنٍ لتعديله وتصحيح مساره. وسام زغبر أشار إلى أن هذا الموقف "لم يكن مجرد إجراء دبلوماسي، بل كان إعادة توجيهٍ معنوي وأخلاقي لمسار التعامل الدولي مع المأساة الفلسطينية، وإصرارًا على وضع القضية في سياقها التاريخي". النجاح الأبرز للجزائر تمثل في تعديل نص القرار ليضمن "تثبيت دور منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية"، وهو ما اعتبره مراد السوداني "انتصاراً لدماء الشهداء"، إلى جانب إعادة التأكيد على "حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره". هذا التعديل حاسم لأنه يقطع الطريق على أي محاولة دولية أو إقليمية لتجاوز الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في أي ترتيبات مستقبلية للقطاع. ومن الناحية التكتيكية، أشار ناصر عطاالله إلى أن الدبلوماسية الجزائرية "استطاعت... أن يحيّدوا قطبين مهمين بدلاً من استخدامهما حق النقض (الفيتو) ضد القرار وهما روسيا والصين". هذا التحرك الدقيق مكّن من تمرير القرار بثقل دولي حقيقي، بدلاً من الفشل المتكرر بسبب "الفيتو". إن هذا الموقف الحكيم انطلق من مسؤولية وواقعية سياسية تدرك، كما أوضح خالد الغزالي، أن "الجزائر لم تكن في موقع 'التواطؤ' بل كانت تتحرك من موقع المبدأ والدور التاريخي"، وأن الهدف الأسمى هو "وقف الكارثة الإنسانية" التي يتطلب وقفها التفاعل الواقعي مع آليات مجلس الأمن، وليس الاكتفاء بالرفض المطلق.
رغم الوضوح الأخلاقي والدبلوماسي للموقف الجزائري، شهدت الساحة ردود فعل سريعة من بعض الفصائل التي انتقدت بشدة القرار والتصويت الجزائري لصالحه. هذا الهجوم، الذي جاء بعد تداول بيان مُذيل بتوقيع "فصائل المقاومة الفلسطينية" حيث لم تتبنى أي جهة من فصائل المقاومة هذا البيان لحد الآن ليبقى السؤال مطروح...من يحاول تقزيم الدور الجزائري ومن يصطاد في المياه العكرة ...رغم أن الخلافات في الرؤى السياسية تعيق الوحدة الوطنية. وهذا ما سعت الجزائر لتجنبه في الكثير من المرات لأن عقيدتها الراسخة هي الوقوف على نفس المسافة من جميع الأطراف وهذا ماذهب إليه عامر أبو شباب أن "التقليل من شأن الدبلوماسية الجزائرية... هو أمر يعكس قصورًا في فهم تعقيدات العمل الدبلوماسي" الذي يقتضي المناورة وتحقيق المكاسب الجزئية في ظل التوازنات الدولية. الجزائر اختارت تحقيق مكسبين قانونيين (الشرعية وحق تقرير المصير) مقابل الموافقة على قرار يوقف الإبادة، وهي معادلة تفهمها الدبلوماسية الواقعية. خالد الغزالي أكد أن "الانتقادات الحادة يمكن تفسيرها في سياق محاولة لتجنب المسؤولية عن التبعات الراهنة". فبدلاً من "المراجعة الذاتية العميقة" للسياسات التي أدت إلى الواقع الحالي، اختارت هذه القوى "توجيه اللوم إلى الخارج". بكر أبوبكر أدان "المزاودة الممجوجة على الموقف الجزائري الثابت"، مشدداً على أن هذه الانتقادات "لن تصمد أمام صلابة العلاقة الطويلة". كما شدد د. رياض عبد الكريم عواد على أن "أصوات الانتقاد التي تهاجم مواقف الجزائر الوطنية الثابتة لا تعكس بالضرورة الرغبة الحقيقية للشعب الفلسطيني وأهل غزة". فالأولوية القصوى لأهل غزة هي وقف الحرب، والموقف الجزائري انحاز إلى هذه الأولوية. عبد العظيم عبد الحق لخص الأمر بالقول إن هذه الانتقادات "تفتقر إلى القراءة السياسية الواعية... وتصدر في سياق التباين في الرؤى التكتيكية"، داعياً إلى "الكف عن توجيه الانتقادات غير المؤسسة". إن الموقف الجزائري يثبت أن الدولة تتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها جزءاً من كرامتها الوطنية، وتفضل صوت العقل والحكمة على المزايدات العاطفية التي قد تزيد من عزلة القضية دولياً. إن الانتقادات الموجهة للجزائر، كما أشار فراس الطيراوي، "تعكس ضيقًا سياسيًا لدى أطراف اعتادت اختزال القضية في اسم تنظيم أو محور"، في حين أن الجزائر وقفت ولا تزال مع فلسطين الشعب، لا فلسطين الفصيل. الشكر والوفاء الذي عبّر عنه كُتَّاب فلسطينيون كـ د. تحسين الأسطل وعبد الله الزغارى يعكس الإدراك العميق في الوجدان الفلسطيني بأن الجزائر لم تخذل ولن تخذل فلسطين. إن المساس بمكانة الجزائر، وفقاً لـ عبد العظيم عبد الحق، "أمر يتنافى مع تاريخنا النضالي المشترك". الدعم الجزائري المتواصل يظل الحصن المنيع الذي يرفض المساومة على المبادئ ويتمسك بالشرعية الفلسطينية، مؤكداً أن هذا البلد العظيم سيبقى "صوت الحرية الذي لا يحق لأحد أن يطال رمزه"، وأن الموقف الجزائري هو انتصار لفلسطين الشعب، وليس لفلسطين الفصيل.