بين الرواية والواقع… ومن يدفع الثمن؟
نشر بتاريخ: 2025/12/25 (آخر تحديث: 2025/12/25 الساعة: 18:32)

حين تصدر الحركات الكبرى روايتها الرسمية، فإنها لا تكتب للتاريخ بقدر ما تحاول الدفاع عنه. بيان حماس الأخير حول “طوفان الأقصى” ليس مجرد وثيقة سياسية من 36 صفحة، بل محاولة لصياغة معنى الحدث، وضبط تفسيره، وإغلاق أبواب المساءلة باسم السردية الثورية.

غير أن المشكلة ليست في حق أي فصيل أن يقدّم روايته، بل في ادعاء امتلاك الحقيقة كاملة، وكأن الواقع، والدم، والخراب، وأصوات الناس، تفاصيل ثانوية يمكن تجاوزها بلغة الانتصار.

أولًا: في الدوافع… ما هو صحيح لا يبرّر كل شيء

لا خلاف على أن الاحتلال، منذ عام 1948، هو الجريمة الأصلية.

ولا خلاف على فشل مشروع التسوية، وتطرف اليمين الإسرائيلي، وخذلان المجتمع الدولي، ومعاناة الأسرى، وغليان غزة.

لكن السؤال السياسي والأخلاقي ليس: لماذا نقاوم؟

بل: كيف؟ وبأي ثمن؟ وعلى حساب من؟

تحويل هذه الأسباب الحقيقية إلى تفويض مفتوح لأي فعل، دون محاسبة للنتائج، لا يصنع استراتيجية تحرر، بل يختزل الشعب في أداة داخل معركة تقرّرها قيادة، ويدفع ثمنها المدنيون.

ثانيًا: السابع من أكتوبر… بين “العبور المجيد” والواقع الكارثي

وصف السابع من أكتوبر بأنه “يوم الميلاد الحقيقي للشعب الفلسطيني” يطرح إشكالية خطيرة.

فالشعوب لا تولد من تحت الأنقاض، ولا يُعاد تعريفها على ركام بيوتها، ولا يُقاس ميلادها بعدد المقابر الجماعية.

إن تحويل يومٍ تلاه تدمير غزة، وقتل عشرات الآلاف، وتهجير الملايين، إلى “يوم عبور مجيد”، هو قطيعة أخلاقية مع وجع الناس، وإصرار على قراءة الحدث من فوق، لا من بين الركام.

الالتفاف الشعبي لا يُقاس بالهتاف في لحظة، بل بالصمود الواعي، وبالسؤال الحر:

هل ما جرى خدم الإنسان الفلسطيني، أم استخدمه؟

ثالثًا: في قائمة “الإنجازات”… السياسة ليست نشرة معنويات

البيان يسرد أكثر من عشرين “إنجازًا”؛ من عزلة إسرائيل، إلى انهيار سرديتها، إلى إحياء وعي الأمة.

لكن السياسة لا تُقاس بالخطاب، بل بالنتائج الملموسة.

هل توقفت الحرب؟

هل حُميت غزة؟

هل أُنجز مشروع وطني جامع؟

هل تغيّر ميزان القوة الفعلي؟

هل تقلّصت معاناة الناس؟

نعم، عاد اسم فلسطين إلى الواجهة، لكن بأي صورة؟

عاد مقرونًا بمجازر، ودمار، وسؤال عالمي عن الكلفة الإنسانية، لا بمشروع تحرر واضح المعالم.

إعادة القضية إلى الصدارة لا تكون إنجازًا إذا كانت غزة هي الثمن الدائم.

رابعًا: “لا يمكن عزل حماس”… نعم، لكن لا يمكن احتكار فلسطين

القول إن عزل حماس وهم سياسي صحيح جزئيًا، لكن الأخطر هو تحويل هذه الحقيقة إلى شرعية مطلقة.

فالتجذّر الشعبي لا يعني العصمة،

والشرعية الانتخابية لا تُخلَّد إلى الأبد،

والمقاومة لا تعني مصادرة القرار الوطني.

لا يمكن عزل حماس، نعم.

لكن لا يجوز أيضًا اختزال فلسطين في حماس.

القضية الفلسطينية أوسع من فصيل، وأعمق من تنظيم، وأبقى من أي سلطة أمر واقع.

خامسًا: أولويات المستقبل… العنوان جميل، لكن من يملك القرار؟

الحديث عن إدارة وطنية مستقلة، وإعادة ترتيب البيت الداخلي، وحماية القدس، وعمق عربي وإنساني، كلها عناوين صحيحة على الورق.

لكن السؤال الجوهري:

هل تملك غزة حق اختيار مستقبلها؟

أم أن القرار سيبقى محصورًا بين السلاح والبيان؟

لا إعادة إعمار بلا وحدة قرار.

ولا إدارة وطنية بلا شراكة حقيقية.

ولا مقاومة بلا أفق سياسي واضح.

ولا كرامة لشعب يُطلب منه دائمًا الصبر، ولا يُسأل أبدًا عن رأيه.

خلاصة القول

رواية حماس هي رواية فصيل، لا رواية شعب.

هي خطاب تعبئة، لا وثيقة مساءلة.

تُكثر من مفردات النصر، وتُقلّل من وزن الدم.

المقاومة حق،

لكن تحويل الشعب إلى وقود دائم للمعارك خطيئة سياسية وأخلاقية.

غزة لا تحتاج مزيدًا من البيانات،

تحتاج مشروع حياة.

ولا تحتاج من يكتب عنها،

بل من يصغي إليها.

والتاريخ، مهما طال الزمن،

لا يحفظ من كتب الرواية،

بل من حمى الإنسان.