مرايا الإنجليز في الرواية الفلسطينية (2 من 2)
نشر بتاريخ: 2020/12/13 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 20:30)

في تخيل «تخيل المتخيل» يعتمد جمال أبو غيدا على مصادر ومراجع عديدة لإنجاز روايته التي تصلح لدراسة مرايا الذات والآخر بامتياز. والرواية التي يتراوح  زمنها الروائي ما بين ١٩١٤ تقريبا و٢٠٠٠ وترتد إلى الماضي العربي السحيق، تقدم لنا تصور ثلاثة أطراف تقريباً لذاتنا وذاتها هي:

- تصور المؤلف الافتراضي/ الضمني لكتاب «البرهان الفصيح والقول الصحيح في أخبار تلاع الريح» وهو الإمام أبو الحسن محمد بن تاج الدين بن زين الدين التلاعي الشهير بابن تاج الدين، واعتنى بالكتاب وحققه: ماجد الفرهود.

- تصور المؤلف الافتراضي/ الضمني لكتاب «وقت للحرب... وقت للسلم» وهو السير(الكساندر جيبسون نايجل)، وقد ترجمت الكتاب من الإنجليزية إلى العربية يمنى فيصل النذيرات.

- تصور المؤلف الافتراضي/ الضمني للرواية، وهي يمنى فيصل النذيرات التي حكت عن تجربتها وحياتها وعلاقتها بالكتابين.

ووراء هؤلاء المؤلفين الثلاثة يقف الكاتب الحقيقي وهو الروائي جمال أبو غيدا صاحب رواية «خابية الحنين» ومترجم العديد من الكتب التي ألفها إنجليز عن فلسطين، وإذا ما أخذنا بما يذهب إليه المنهج الوضعي عن العلاقة بين المؤلف ونصه ووحدتها وصعوبة التفريق بينهما فيمكن القول إن صورة الإنجليز في الرواية وتصورهم الآخرين صادرة عن  أبو غيدا نفسه، وهي صورة لها مرجعياتها وقد ذكر الروائي أكثرها.

ما سأقف أمامه هنا هو الصورة التي يقدمها المؤلف الضمني وهو يمنى النذيرات في مقدمتها لترجمتها كتاب (نايجل)، ثم الصورة التي يقدمها هو للإنجليز وللعرب في كتابه المفترض «وقت للحرب.. وقت للسلم».

في المقدمة تكتب يمنى عن حياة (نايجل) الذي ولد في القاهرة في العام ١٨٩٥ لأبوين بريطانيين حيث كان أبوه يعمل أمينا مساعدا في المتحف المصري وكان الأخ الأكبر لأخ وأختين ودرس في مدارس الرهبنة اليسوعية وكان يتقن اللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية إتقاناً تاماً. التقى بلورانس العرب وكان لهما نشاط استخباري وعملا ضمن الفرق البريطانية التي كانت تجوب منطقة الحجاز لمساعدة بريطانيا في امتلاك ما يمكن امتلاكه من تركة الرجل المريض.

كان(نايجل) «يعمل بهدوء وبعيدا عن أضواء القاهرة وبغداد والقدس... ولعب دورا في غاية الخطورة في تشكيل ملامح الدولة الوليدة التي سميت بمشيخة تلاع الريح. وكان كمعظم مجايليه من الآثاريين والجغرافيين والسياسيين والرحالة الإنجليز الذين عملوا وأقاموا في الشرق وافتتنوا به، والذين بقي افتتناهم وشغفهم بالمنطقة محكوماً بما يحملونه من أفكار توراتية وانجيلية نمطية، كانت تملي عليهم تصوراتهم وآراءهم بهذا الشرق بكل ما فيه...». هذه هي الصورة التي تقدمها يمنى للإنجليزي، فما الصورة التي نستشفها له من خلال تأليف كتابه المفترض «وقت للحرب... وقت للسلم»؟.

يبدو أن إظهار هذه الصورة يتطلب مساحة كبيرة، فالكتاب كله والذي شغل نصف الرواية تقريباً يحفل بالكتابة عن ذات السارد الإنجليزية وآخر هذه الذات من عرب وأتراك وغيرهم ممن يرد ذكرهم.

إن تصوره لذاته باعتباره بريطانياً، وبالتأكيد لبريطانيا التي يمثلها، يبدو إيجابياً بالمطلق  فبريطانيا «لا تتهاون أبداً في الشؤون التي تخص سلامة مواطنيها، لا مواطنيها وحسب، بل ورعاياها من السكان الأصليين في الهند وأفريقيا وغيرها من أراضي الإمبراطورية» والسياسة البريطانية تسعى لإنصاف المظلومين أينما كانوا، وبصرف النظر عن عرقهم أو لونهم أو دينهم. (١٧٠/١٧١).

وبريطانيا تختلف عن الشرق وحكامه من رؤساء عشائر، فالاميرالاي نجاتي باشا أحد قادة القوات المصرية يستقبل (نايجل) ويتحدث إليه «بلطف وتهذيب بالغين، وهو يثني على علاقات سيده محمد علي بالحكومة البريطانية وبرعاياها في كل مكان، وبأنه يعتذر عن الإزعاج المتمثل في إخراجي من بيتي، لكن وكما يقولون في الشرق «للضرورة أحكام» وقد قالها بتورية لا يسهل تجاوزها، لكنه كان كذاباً أشراً، كمعظم الشرقيين الذين تعاملت معهم». ولنلاحظ عبارته «كمعظم الشرقيين الذين تعاملت معهم» وهي عبارة دالة بما فيه الكفاية، فإذا ما نظرنا إلى رأيه في كثير من الأسماء العربية التي ذكرها وأبدى رأيه فيها رأينا أنها تبدو شخصيات مدعاة للسخرية والضحك والتهكم أيضا.. ولسوف يلخص (نايجل) الذي أبرز لنفسه صورة الصبور الحكيم في تعامله مع الشرقيين الأوغاد القتلة الميالين للثأر والحقودين والذين يعيشون في الماضي وينتمون للقبيلة، لسوف يلخص في نهاية الرواية رأيه في هذا الشرق البائس الذي لن ينجح أحد في توحيده على النحو الآتي:

«كذلك كانت أيامي في هذه التلاع الغارقة بأساطيرها وخرافات أهلها وخزعبلاتهم، التي لا تنتهي عن الشياطين والأفاعي الثنائية الرأس، والجنيات..».

واللافت هو أن هذا الكولونيل ينظر إلى الأتراك أنهم اتبعوا في حكمهم العالم العربي على أساس مبدأ «فرق تسد»، وهو خلاف ما هو شائع لدينا إذ أننا نعرف أن الإنجليز هم من اتبعوا هذه السياسة في أثناء انتدابهم على فلسطين، فهل أسقط ما اتبعته بريطانيا في سياستها على الدولة العثمانية؟

الإجابة عموماً تتطلب التقصي.

 

الايام