أكثر من سؤال يتبادر للذهن حول زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، منذ إعلانه تبني فرنسا لإجراءات عقابية ضد المسؤولين اللبنانيين، المتورطين في الفساد، ومعرقلي العملية السياسية، وتذكيره بأن هذا الأمر على طاولة الاتحاد الأوروبي، وقد يصبح سياسة أوروبية شاملة، وبالتالي فإن على لبنان الاختيار بين الدبلوماسية والعقوبات.
مما لا شك فيه أن لودريان كان يسعى لإحداث خرق في جدار الأزمة اللبنانية، عبر إنعاش المبادرة الفرنسية التي وصلت إلى مرحلة الاحتضار، وتأكيد دور فرنسا وحضورها القوي في لبنان، خصوصاً بعد الدخول الروسي اللافت والمهم على خط الأزمة على نحو بات يزعج باريس، ويتسبب في إضعاف دورها وحضورها التاريخي. لكن السياسة التي ينتهجها لودريان، تجعله كمن يسير على الحد الفاصل بين المخاطرة بفرض عقوبات، قد تفضي إلى موت فعلي للمبادرة الفرنسية، وانكفاء فرنسي مع كل ما يترتب على ذلك من خسارة للدعم والمساعدات الدولية، وبين الدبلوماسية التي أثبتت عدم جدواها حتى الآن، في ظل تعنت وربما عنجهية السياسيين اللبنانيين وحساباتهم الشخصية والمصلحية. إذ يفترض، لو أن الظروف أصبحت ناضجة للعملية السياسية، أن يأتي الرئيس إيمانويل ماكرون بنفسه إلى بيروت، للإشراف على ولادة الحكومة الجديدة، باعتبارها إنجازاً شخصياً له، وحصد نتائج المبادرة التي أطلقها بنفسه، وقام بزيارتين إلى العاصمة اللبنانية لتسويقها وألغى ثالثة، فيما هو الآن يتخلى عن الملف لوزير خارجيته، تاركاً له حرية التعامل مع المسؤولين اللبنانيين، كفرصة أخيرة قد تقود إما إلى حل الأزمة، وبدايتها الشق الحكومي، وإما انكفاء فرنسي شبه كامل، مع كل ما يترتب على ذلك من تداعيات ومخاطر على لبنان.
لكن، بطبيعة الحال، ليست فرنسا وحدها هي من يملك مفتاح حل الأزمة اللبنانية، فهناك بالتأكيد لاعبون إقليميون ودوليون، ربما يفوق تأثيرهم ما تتمتع به فرنسا من نفوذ، غير أن المشكلة تكمن في السياسيين اللبنانيين الذين لا يأبهون كثيراً للضغوط والعقوبات، ليس لأنهم سياسيون "سوبر" أو "دونكشوتيون"، وإنما لأن كلاً منهم يتلطى خلف طائفته المضطرة لحمايته في ظل نظام المحاصصة والطائفية، باعتبار أن ما يمسه يستهدف الطائفة أولاً وأخيراً. والمفارقة هنا أن أغلبية الشعب اللبناني التي خرجت إلى الشارع للمطالبة برحيل كل الطبقة السياسية المتنفذة والفاسدة، سواء داخل الحكم أو خارجه، وتدرك أن سلسلة الأزمات والكوارث التي تتعرض لها، جاءت عن طريق هذه الطبقة الفاسدة، لكنها عند الفرز الطائفي تصطف خلف رموزها المستهدفة، وتعمل على حمايتها بذريعة عدم استهداف الطائفة نفسها.
لا شيء يبشر، حتى الآن، بأن الطبقة السياسية المتنفذة ستتغير وتتخلى عن حساباتها الآنية والمصلحية، لصالح الوطن والشعب الذي يرزح في آخر سلم اهتماماتها، وبالتالي هل سيتمكن لودريان، بالضغط أو بالدبلوماسية، بالترهيب أو الترغيب، من إجبارهم، ولو لمرة واحدة، على الإذعان لصوت الشعب الذي يئن تحت وطأة الخوف والجوع والأزمات، وإتاحة المجال أمام فرصة حقيقية لحل الأزمة.
الخليج