ما زال الفلسطينيون في مرحلة التيه، السياسات على ما هي عليه والمراهنات كذلك، رغم أن الوقائع تفقأ الأعين. كل يعتقد أنه يدير سياسة واقعية، وبأنه يحتكر الحقيقة، والدفاع عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني دون غيره.
تضيع الحقيقة في خضم هذه التناقضات والاختلافات، وصاحبها يلقى به إلى آخر الصفوف، أما إن أراد أن يقف في الصفوف الأولى فإن عليه أن ينحاز لهذا الطرف أو ذاك.
العيون ترى، ولكن الآذان صمّاء، فلا تسمع إلّا صدى صوتها وأصوات المطبلين والمزمرين المنتفعين من هذا الواقع المرير.
الانقسام تحول إلى قسمة عملياً، وكل بما لديه فرح، وقد تراجع حتى كاد يختفي الحديث عن مبادرات مصالحة، أو حوار وطني هادف.
المبادرة الجزائرية أصبحت في طيّ النسيان، فقد مضى على طرحها نحو ستة أشهر، استقبل خلالها الأشقّاء الجزائريون وفوداً من كافة الفصائل، وأيضاً من المستقلين.
الجزائريون حساسون جداً إزاء القضية وأوضاع الفلسطينيين، ولطالما احتضنت بلادهم اجتماعات المجلس الوطني، وأداروا حوارات ناجحة لترميم العلاقات بين الفصائل، لكن الأمر هذه المرة يفوق قدرة الجزائر على أن تجد حلاً لمعضلة لم يقفوا على مستوى تعقيداتها خلال مرحلة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
الأرض تستدعي تحقيق الوحدة الشاملة، فالمواجهة في حالة تصاعد، والاحتلال لا يتوقف عن تنفيذ مخططاته، ولا يكفي في مواجهتها الوحدة الشعبية التي تنطوي بدورها على أجندات ودوافع مختلفة على صلة قوية بواقع الانقسام أو القسمة الواقعة.
سبق ولأكثر من مرة أن اتفقوا على خطوات الحد الأدنى من الشراكة في الميدان، لكن هذه، أيضاً، لم تتحقق حتى الآن، ارتباطاً باختلاف الحسابات الفصائلية، وأهدافها الخاصة.
بالحدّ الأدنى كان يمكن تبادل الأدوار وتكاملها في سياق المواجهة مع الاحتلال، لكن هذا لا يحصل، إذ تسود المخاوف المتبادلة وتستحكم بالأداء.
لا يرغب البعض في أن يرى حقيقة وأبعاد الصراع كما يرسمها الميدان، وكما تقدمها بوضوح السياسة الإسرائيلية، التي أصبحت محكومة للمخطط الصهيوني الأساس بكل تفاصيله، واتخذت من القوانين والتشريعات، ما يقدم خطة تفصيلية لكيفية تنفيذ تلك المخططات ومآلاتها.
لا يزال البعض يتعامل بحذر من الحركة الوطنية في أراضي 1948، هذا بالرغم من أن إسرائيل لا تتوخّى الحذر، ولا تخجل من تطبيق تلك المخططات على كامل الأرض الفلسطينية التاريخية.
الولايات المتحدة لا تزال تعمل كرجل إطفاء وفي أحسن الأحوال من موقع إدارة الأزمة والصراع، وتتوقف عن تنفيذ وعودها للفلسطينيين، أما حين يتعلق الأمر بإسرائيل فإنها لا تتردّد لحظة عن تنفيذ كل ما تطلبه.
بلا خجل يقول نائب السفير الأميركي في الأمم المتحدة ريتشارد ميلز أمام مجلس الأمن، إن الحرب الروسية تتسبب في نقص الغذاء للفلسطينيين في الضفة وغزة، ويؤكد ذلك المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط وينسلاند.
وينسلاند يتحدث عن حقيقة الوضع، لكن الأميركي يريد أن يقول، إن روسيا تتحمّل المسؤولية عن أزمة غذاء، يُقبل عليها الشرق الأوسط، وإلّا فإن عليه وعلى بلاده أن يتحمّل المسؤولية إزاء ما ينتظر الفلسطينيين، ولكنه لا يفعل.
الاتحاد الأوروبي مشلول حتى الآن، ولا يستطيع اتخاذ قرار بشأن دعم موازنة السلطة الوطنية، بذريعة المنهاج الفلسطيني. تتزعّم المجر حملة ربط المساعدات، بتغيير المنهاج الفلسطيني، لكنها لا تكلّف خبراءها التدقيق في مناهج التربية والتعليم الإسرائيلية، ولا تكلّف خبراءها التدقيق في المنظومة القانونية التي تشكل مرجعية السياسة والممارسات الإسرائيلية.
مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة شهرية للإحاطة بالأوضاع في الأراضي المحتلة، وفي كل مرة يقدم المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، تقريراً يعكس جزءاً مهماً من الحقائق، لكن المجلس لا يصدر بياناً أو موقفاً.
وفي سياق آخر، يقدم خبراء في حقوق الإنسان، وعدد من المؤسسات الدولية، تقارير تشير إلى ضرورة عودة الدعم للمؤسسات الفلسطينية الست التي صنفتها إسرائيل بأنها إرهابية، لكن ذلك لا يردع إسرائيل، ولا يؤمّن الحماية لتلك المنظمات، أو يعيد إليها الدعم باستثناء البعض.
سنظل نتحدث عن ازدواجية المعايير، وعن الأزمة الأخلاقية التي تعاني منها الحكومات الغربية، وفي مرّات قليلة يجري الحديث عن انحيازات واضحة وفاضحة لصالح الاحتلال، ولكن يغيب السؤال بشأن ما الذي على الفلسطينيين أن يفعلوه.
من الواضح أن السياسات الحالية لن ترضي أحدا، لكن الأمر في جوهره يعود إلى أن الفلسطينيين لم يعودوا يخيفون أحداً لا قريباً ولا بعيداً، وبأنهم لا يشكلون خطراً على مصالح أحد كما تفعل إسرائيل.
السبب في هذا الضعف، هو الانقسام الذي تحول إلى قسمة، والتمسك بسياسة عدم التدخل في شؤون الآخرين رغم أن الكل يتدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لفلسطي