- صافرات الإنذار تدوي في مستوطنة "المطلة" شمال فلسطين المحتلة
- إعلام عبري: اعتراض 6 صواريخ على الأقل في سماء حيفا وخليجها
- رشقات صاروخية من لبنان باتجاه حيفا ومحيطها
خلال استقبال الاسير المفرج عنه من سجون الاحتلال غسان زواهرة في مخيم الدهيشة والذي قضى ما يزيد عن 12 عاما على فترات مختلفة اغلبها اعتقالات ادارية ،كانت ابنته الصغيرة مينا 4 سنوات تجلس في حضنه وملاصقة له ، لا تتركه ابدا كأنها لا تريد من أي احد ان يقترب من والدها ، الطفلة تطوق والدها وتتحدث معه وتروي له قصصا لم يشهدها خلال غيابه عن البيت ، هو ملك لها وحدها ، تعانقه مرة تلو المرة وتقبله وتمسك بيديه وتمسد على وجهه وشعره ، تمنعه من الوقوف أو الحركة او حتى من القيام بمصافحة المهنئين ، فقد احتلت الطفلة مينا والدها تماما وكأنها تخشى اذا ما تحرك أن لا يعود اليها مرة ثانية .
مينا الصغيرة كبرت في بيت دوهم مئات المرات على يد جنود الاحتلال ، تستيقظ صباحا فلا تجد والدها في البيت ، وتكتشف أن الجنود المتوحشين خربوا ودمروا ونهبوا محتويات البيت ، زعقوا وصرخوا وهددوا واقتادوا والدها مكبلا بالحديد الى المجهول ، تستيقظ الطفلة البريئة وتجد ان العابها قد تحطمت واسرَّة اخوتها وخزائنهم قد نبشت ، وحاجيات واغراض المنزل قد تبعثرت ، وكأن قنبلة انفجرت في حلمها البريء.
الطفلة مينا بدأت تدرك أن اللاجئ كما وصفه محمود درويش هو ان لا يكون طفلا منذ الان ، أن يكبر بسرعة ، يستوعب دلالات الصور الكثيرة المعلقة على الحيطان ، صور شهداء وعلى رأسهم عمها الشهيد معتز ، البيت لم يعد مكانا للمبيت ، صار جدارية للقبور الكثيرة ، رائحة دم في كل الارجاء ، اصوات رصاص ومداهمات ليلية في مخيم الدهيشة ، مينا لا تنام ، تسمع الكبار يتحدثون عن شهيد سقط هذه الليلة وعن جرحى ومصابين ومطاردين ، تنظر حولها تبحث عن والدها وعن اخوتها ، مينا الصغيرة تختبئ في حضن امها ملجومة بالرعب والاسئلة .
مينا الجميلة تكره الليل ، الليل ثقيل ، ليل المخيم يحتشد بالترقب وبالاجتياحات التي اصبحت شبه يومية ، همسات الشبان تشير الى اقتحامات للجنود وفرق الموت الاسرائيلية ، تحركات الشبان تدل انهم يستعدون هذه الليلة للسهر وحراسة المداخل والمواجهة ، ينتشرون في حارات المخيم وفي ازقته وفوق سطوح البيوت ، هل انجبنا الله في ساحة حرب ؟ قالت مينا وهي تراقب جنازة حاشدة تمر من باحة الدار الى المقبرة ، اين يذهب الشهيد يا ابي ؟ تسأل مينا وتنظر الى حيث اشار والدها الى السماء ، ولكن لماذا لا يعود سكان السماء يا ابي ؟ لقد اقترب عيد الفطر ومن المفترض ان يعود عمي الشهيد معتز ليشتري لي الهدايا والفساتين والحلويات الكثيرة .
الطفلة مينا لا زالت تحتضن والدها تتمسك به تمنعه ان ينهض ، وعليه ان يسمعها فقد غاب طويلا ، حكايات كثيرة جرت في حياتها : ذهول والدتها وحزنها الدائم ، زيارات للسجون منذ الفجر الباكر، مينا تريد ان تبكي وتشرح لوالدها ما يسكنها من فزع دائم ، ترتجف وترتعش عندما يطرق الباب ليلا او يفجره الجنود فجأة ، مينا تغلق الشبابيك وتدفن رأسها تحت الاغطية ، تريد ان تخبر والدها عن سر الكوابيس السوداء التي تنتابها ، عن هروب الفراشات الملونة من دفاترها ، لم يأت اليها بابا نويل هذا العام ، فقد قضى الناس كل ايامهم في حداد ، قوافل من الشهداء في كل مكان في فلسطين ، لا احد يضحك او يبتسم يا ابي ، الكل يتألم ، لا أحد يلعب أو يمرح أو يضيئ شجرة ، انا وحدي يا ابي فلا تتركني مرة أخرى .
الطفلة مينا تستقبل المهنئين مع والدها بعد أن قضى عامين في الاعتقال الاداري ، وتكاد تمنعه أن يرد على اسئلة اصدقائه وأحبائه ، مينا هي الصوت الوحيد العالي في قاعة الاستقبال ، تقول للناس : هذا ابي لي وحدي ، لقد انتظرته طويلا ، الوقت كله لي ، غاب كثيرا وحان الوقت ان اسأله عن الحياة القادمة ، حان الوقت أن يداعبني ويلاعبني ويريني البحر خلف المستعمرات ، أن يغني لي ويروي القصص التي ليس فيها كلمات عن القيود والزنازين والشبح والتعذيب واصوات الوحوش في أقبية التحقيق ، اتركوا ابي لي هذا المساء ، احتاج الى السلام الدافئ بين يديه ، الى طائر اخضر وغيمة ماطرة ، احتاج اليه فلا زلت خائفة ، في داخلي صدى يتردد : دموع امي ، الباب والمناضد والستائر والكتب والاقلام واللوحات وشتلات النعنع الذابلة ، الكل خائف ، لا امشي في الشارع فهناك سيارة عسكرية مسرعة، لا انظر الى الجبل فهناك قناص وفوهة بندقية ، انا خائف لا انا في الحديقة ولا انا في البيت ، عاد ابي فلينكسر الانتظار ويتحرك الوقت ويموت الصمت .
الطفلة مينا تستقبل سفينة والدها التي رست أخيراً، السفينة قاومت الطوفان ولم تغرق في لجج السجن العاتية، السفينة ترسو في مينائها، في حضن البنت الصغيرة، سفينة صلبة ليست من خشب، بل من لحم وعظم وإرادة عنيدة، قطعت البحور والمحيطات كلها ولكنها لم تتوه أو تعرف الخنوع والاستسلام، هي سفينة العودة من مخالب الاحتلال، سفينة الحب الذي ينتشر على وجه مينا، الحب الذي لا يعرفه المحتلون، الحب القوة الإنسانية العظمى الذي يختم بصمته على البداية والنهاية لشعب يعشق الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
مينا لم تصدق ان والدها عاد من السجن ، غيابه المستمر اصبح روتينا ، الاعتقال الاداري اصبح قاعدة جارفة تطال كل فئات الشعب الفلسطيني ، دربها حدسها على فهم المعادلة ، لن يعود بعد ستة شهور ، سيجددون له الاعتقال مرة تلو المرة ، لن يعود حسب قوانين اسرائيل الحربية والعنصرية ، ملفه السري يقول انه ما زال يشكل خطرا على دولة اسرائيل ، قضاة المحكمة العسكرية يخشون اذا ما تحرر غسان زواهرة سوف يربي ابنته الصغيرة على الصبر حتى لا يتعب الامل ، ولهذا صادقت المحكمة العسكرية على تمديد الاعتقال الاداري الى اجل غير محدود ، وقد ظنوا ان السجن سوف ينقص لديه القدرة على تذوق طعم الهواء ، وان تتجمد اشواقه وذكرياته فلا يكتب الى ابنته مينا عن الحرية والعودة واشتهاء الفضاء .
مينا بدأت تفهم اسباب تصاعد عمليات الاعتقال الاداري التي زادت عن الالف اسير هذا العام ، الاسرى لن يعودوا الى عائلاتهم ، يسافرون في ليل السجون حتى تصاب قلوبهم وذاكرتهم بالتعفن والعطب ، ان ينسوا نكبتهم وحياتهم السابقة ، دولة الاحتلال تريد ان تبقي حياة الطفلة مينا ناقصة ، سنة وراء سنة وهي تنادي عليه ، يا ابي عد امينا ، يا ابي انا مشتاق اليك ، انا خائفة .
الاعتقال الاداري هو شكل من اشكال التعذيب النفسي والاجتماعي ، اسألوا الطفلة مينا ، اسألوا العائلات المكلومة في قاعات المحاكم العسكرية ، لا احد يفرج عنه من المحكمة ، يصادق القضاة على كل اوامر وقرارات الاعتقال الاداري ، انها اوامر جهاز المخابرات والجهات الرسمية في دولة الاحتلال ، هذا الاعتقال يبعثر حياة الشعب الفلسطيني ، الحياة تصير محطات انتظار متعثرة ، كل شيء يصبح مؤجلا : المواعيد والمناسبات والزيارات والشهوات والتعليم والسفر ، تمتلئ النفوس بالدهشة والحيرة والضجر، تتبخر المعاني وتكثر الصدمات ويطفح الالم ، من يحرث الحاكورة ، من يزرع الشجر ، من يجلب جرة الغاز ، من يحتفل بعيد ميلاد مينا ، يضيئ لها الشموع ويشتري لها اجمل هدية ، ويأخذها صباحا الى المدرسة .
الاعتقال الاداري نهب للأعمار وقد بدأ منذ عهد الاستعمار البريطاني واستمد احكامه من القوانين النازية ، ولكن كيف تفهم الطفلة مينا كل ذلك ؟ انه الرحيل الدائم للأرواح وللأزمنة ،يصير الاسير مجرد لوحة او صورة او ظلال عابرة ، فمن يهز الصورة ويعطيها حياة وهوية ؟
اللقاء الحميم بين الطفلة مينا ووالدها المفرج عنه من السجن لفت انتباه الجميع ، سالت دموع الرجال وهم يشاهدون فرح الصغيرة يرفرف حول والدها، انها فرحة انسانية سياسية بعيدة المدى ، هذه الطفلة تقول: لا يوجد أغلى ولا اغنى ولا اقدس من الحرية ، مينا تجرحنا جميعا لأنها توجه الانظار الى الاف الاطفال المحرومين من ابائهم وامهاتهم ، الجالسون تحت الليالي بلا سماء مقمرة ، النائمون على دمعة يائسة ، انها لحظة الحرية والخلاص من السلاسل وعتمة الظلام ، لحظة تكفي لكي تحيا الطفلة مينا حياتها كلها دفعة واحدة .
في قاعة استقبال الاسير غسان زواهرة في مخيم الدهيشة سمعت الطفلة مينا تسأل ابيها : هل هربت من السجن يا ابي ؟ لا احد يعود من الاعتقال الاداري واذا ما عاد سرعان ما يعتقل مرة اخرى ، الطفلة المندهشة لم تصدق ان ابيها اصبح في البيت ، ربما حفر نفقا وهرب ، فالاعتقال الاداري هو العدو الدائم الذي يتربص بالشعب الفلسطيني بلا رحمة ، ربما تحول والدها الى ظل اطل على ليل المخيم من العدم ، ربما هو حلم من احلامها ووساويسها المضطربة ، مينا تطوق والدها بجسدها ، تضغط على يديه ، تشم انفاسه ورائحته وتنظر في وجهه وعينيه ، مينا تريد ان تتأكد انه معها ، تتطلع حولها وكأنها تخشى ان يخطفه الجنود ويزجوه في تلك السجون الظالمة ، مينا تنام في حضن والدها ، تقول : هذا ابي ، اعطوني لحظة اشعر فيها ان طفولتي مكتملة .