- 11شهيدًا في قصف الاحتلال مركبةً وتجمعًا للمواطنين أثناء استلام الدقيق في منطقة قيزان النجار جنوبي مدينة خان يونس
انتهت جولة المواجهة الأخيرة بين الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة ودولة الاحتلال، بطرح المزيد من علامات الاستفهام حول مفهوم الردع الإسرائيلي، بعد فشل الآلة العسكرية الإسرائيلية في حسم المعركة. وبالرغم من التباهي بما يسميه الاحتلال "تكبيد حركة الجهاد خسائر فادحة"، فإن القيادة الأمنية الإسرائيلية مصابة بالإحباط لعدم قدرتها على فرض الردع ولأن الجهاد يعود ويقف على رجلين أقوى بعد كل ضربة.
أمّا في الرأي العام الإسرائيلي فالإحباط أشد بسبب الإدراك بأن هذه الجولة لم تحسم شيئا، وأن الجولة المقبلة آتية لا محالة، ومعها شل الحياة الاعتيادية والاختباء في الملاجئ والغرف الآمنة وانتظار سقوط الصواريخ. الردع الإسرائيلي يتآكل أمام الجهاد الإسلامي، فما بالك مقابل أطراف أقوى؟ لقد كان من أهداف (إسرائيل) في شن العدوان الجديد على غزة ترميم الردع، ولم يتم لها ذلك، وهي اليوم كالذئب الجريح، الذي يبحث عن مواجهة لإثبات قدراته.
إن نتائج المعركة الحالية لا تختلف جذريا عن جولتي المواجهة السابقتين بين (إسرائيل) والجهاد الإسلامي.
فالجهاد ما زال قادرا على إلحاق الأذى بـ(إسرائيل) عبر إطلاق وابل من القذائف الصاروخية، و(إسرائيل)، وبرغم كل التبجح، لم تستطع بعد الوصول الى منظومة فعّالة ضد الصواريخ تمنع تساقطها في العمق الإسرائيلي، وهي بهجماتها الإجرامية بعيدة عن الحسم العسكري مع أنها تمتلك الأسلحة الأكثر تطورا في العالم وجيشا من أقوى الجيوش.
الجواب على السؤال هل تردع الجولة القتالية الأخيرة الجهاد الإسلامي عن العودة الى مواجهة جديدة إذا لزم الأمر، هو لا بالطبع. كذلك فإن الخسائر التي تكبدتها (إسرائيل) اقتصاديا ومعنويا في شل حياة مليوني شخص لمدة أسبوع، لا تجعل (إسرائيل) تمتنع عن القيام بعدوان جديد لتحقيق مآربها. وعليه فإن المعركة القادمة، قادمة لا محالة أخذا بعين الاعتبار الأجواء السائدة في المستويين السياسي والأمني في (إسرائيل)، وتبنّي مبدأ وحدة الساحات، مبدئيا على الأقل.
لقد أثار فشل (إسرائيل) حسم المعركة مع الجهاد الإسلامي بعد ثلاث جولات قتالية واستهداف تنظيمه في الضفة الغربية بشكل يومي تقريبا، نقاشا حول نجاعة العمل العسكري الإسرائيلي، وتساءل الكثيرون عن جدوى الحملات العسكرية إن كانت لا تؤدي نتيجة، وإن كانت تكشف محدودية القوّة الإسرائيلية حين ستواجه قوى أقوى من الجهاد الإسلامي بكثير.
أطلقت (إسرائيل) على معركة «ثأر الأحرار» اسم «الدرع والسهم»، وفيما تسميه "الدفاع والهجوم" فشلت (إسرائيل) فشلا ذريعا في ترميم الردع، وليس لأنها لا تملك القوّة، بل لأنها تتمتع بقدر كبير من الغباء. فمعادلة الردع ليست من طرف واحد وتحتاج من يرتدع وهنا مربط الفرس لأن شحنة الغضب الفلسطيني تتجاوز حاجز الردع ولا تتوقف عنده. وقد انتبه بعض المحللين الإسرائيليين إلى ذلك وقالوا «قتل الكثيرين يثير في الطرف الآخر خوفا وتوجسا، لكن الى جانبهما غضبا وكراهية، ما يؤدي الى خفض مستوى حاجز الخوف وإلى زيادة في دافع المواجهة».
في الماضي كانت (إسرائيل) تجهد نفسها بالتظاهر بأنها لم تعرف بوجود مدنيين مع «العسكريين» الذين استهدفتهم، لا بل تتهمهم بمزاعم محاولة الاحتماء بالمدنيين وتعمّد التواجد بينهم. هذه المرة لم تفعل ذلك، بل جاهرت بأنها كانت على علم مسبق بوجود من استهدفتهم مع عائلاتهم، وأعلنت أبواقها بأن الاعتبارات العملياتية فاقت «الحرص على حياة غير المتدخلين».
من الناحية المبدئية، كل ما تقوم به (إسرائيل) في هذا السياق هو جرائم نكراء، سواء كان ضحيتها من المدنيين أم من العسكريين الفلسطينيين. لكن القانون الدولي يضع فرقا وهو يعتبر القتل العمد للمدنيين جريمة حرب يحاسب عليها من اقترفها ويمكن مقاضاته في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
لقد رصد عدد من مؤسسات حقوق الإنسان جرائم الحرب الإسرائيلية، مع إثبات قاطع بأن قتل المدنيين، بمن فيهم الأطفال، كان مع سبق الإصرار والترصد، وكان عمليا ورسميا قتل عمد وليس عن طريق الخطأ، كما ادعت (إسرائيل) سابقا، لكنها هذه المرة لم تقل ذلك.
ويمكن تقوية هذا الادعاء من خلال تتبع ما جاء في الإعلام الإسرائيلي بهذا الصدد، بما في ذلك تصريحات رسمية لمسؤولين وتقارير صحافية لوسائل إعلام مركزية في الدولة الصهيونية.
في القاهرة، حث مجلس جامعة الدول العربية، المحكمة الجنائية الدولية على إنجاز التحقيق الجنائي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي قامت وتقوم بها (إسرائيل)، بما فيها جرائم الاستيطان والضم والعدوان على المناطق الآهلة بالسكان وقتل المدنيين والصحافيين والطواقم الطبية، والتهجير القسري، وهدم البيوت وغيرها.
بيان جامعة الدول العربية طويل، وكل ما جاء فيه كلام حق، لكن دور الجامعة العربية ليس إصدار بيانات تحث المحكمة الجنائية الدولية، بل يجب أن تكون هي المدعي المركزي ضد (إسرائيل) وجرائمها، وعدم ترك الأمر للسلطة الفلسطينية وحدها، مع العلم المسبق أنها تتعرض لضغوط أمريكية وأوروبية وإسرائيلية رهيبة لعدم المضي بالشكاوى حتى النهاية. آن الأوان لتتحمل الدول العربية مجتمعة، عبر الجامعة العربية، قسطا من المسؤولية، وهذا أضعف الإيمان، ففي بداية ونهاية المطاف، الدم الفلسطيني الذي ينزف دفاعا عن النفس وعن شرف الأمة، هو دم عربي خالص.
في كل معركة عسكرية يقوم الجيش الإسرائيلي باختبارات جديدة للأسلحة، ويقدم تقارير مفصلة للولايات المتحدة وأحيانا للناتو، ويُستغل ذلك أيضا لتسويق السلاح. (إسرائيل) أعلنت أنها جرّبت مقلاع داود، ولكنها ربما جرّبت غيره والرقابة العسكرية منعت النشر. دليل على ذلك التلميحات بخصوص مدفع الليزر.
ففي شباط/ فبراير 2022، أعلن رئيس حكومة الاحتلال، حينها، نفتالي بينيت أن سلاح الليزر سيكون جاهزا للاستعمال خلال عام، وها قد مر أكثر من عام، فهل جرّبته (إسرائيل) في عدوانها الأخير على غزة؟ هذا السؤال طرح بشكل ملتوٍ على أهم المواقع الإلكترونية الأمنية في (إسرائيل) وهو موقع معهد دراسات الأمن القومي في جامعة (تل أبيب)، حيث كتب يهوشوع كليسكي بأن الجمهور تساءل خلال المعركة الأخيرة: «أين سلاح الليزر الذي وعدتمونا به؟»، وبعد أن تذرّع بالجمهور لطرح السؤال، لم يعط جوابا واكتفى بتقديم شرح مقتضب عن مزايا ونواقص هذا السلاح.
(إسرائيل) تواصل تطوير آلتها الحربية، وتغلق الباب أمام أي تسوية سياسية وتجهّز نفسها لمواجهة مستمرة طويلة الأمد، لربما تصل الى نقطة تحسم فيها المعركة. لكن الأمر الذي لم تستوعبه الدولة الصهيونية هو أن الجيش القوي قادر على هزيمة جيوشا ضعيفة، لكنه لا يستطيع أن يغلب شعبا عزيمته قوية، حتى لو كانت قدراته متواضعة.