لا تتوقف ماكينات الدعاية الإسرائيلية، التي هي امتداد لآلة الحرب عن التلويح بعملية عسكرية واسعة ضد الفلسطينيين في مدن شمال الضفة وبالتحديد ضد مدينتي نابلس وجنين وضواحيهما ومخيماتهما، بهدف اجتثاث حالة المقاومة المتجددة التي لم تفلح كل العمليات الجزئية والمحدودة على امتداد العامين الماضيين في القضاء على هذه الحالة، بل على العكس تؤشر المعطيات المتاحة إلى أن ظاهرة المقاومة التي انبعثت من جديد من وسط الحطام والرماد والقتل تتمدد وتتوسع وتنتشر إلى مدن ومحافظات أخرى، على الرغم من كل العنف الذي مورس ضدها من اغتيالات اليومية واعتقالات، وحملات تنكيل وعقوبات جماعية.
إذا استمع شخص غريب لهذه التهديدات الإسرائيلية، فربما هُيّء إليه أن إسرائيل كانت تحاور الفلسطينيين باللين والحسنى والأدوات الناعمة، ولم تقتل 230 شهيدا فلسطينيا خلال العام 2022 ، ونحو 170 شهيدا قبل أن ينتصف العام 2023 إلى جانب أضعاف هذا العدد المُروّع من الجرحى والمعتقلين فضلا عن هدم مئات المنازل والمنشآت، سواء كانت لمنفذي العمليات وأقاربهم او بحجج قانونية وإدارية مختلفة مثل البناء بدون ترخيص.
يدرك أي متابع حيادي أن اللغة الوحيدة التي تجيدها إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين هي لغة القوة والحديد والنار وكل ما يشتق منها من أدوات القمع والقهر والابتزاز كالحصار المشدد المفروض على قطاع غزة منذ 16 عاما، وسياسات تعطيش الفلسطينيين وحرمانهم من مواردهم المائية، وتحويل كل المناطق الفلسطينية إلى سجون جماعية من خلال التحكم بمداخلها ومخارجها والطرق التي تصل بينها، وإغلاقها عمليا وكلما دعت الحاجات الأمنية ببوابات حديدية أو بمكعبات اسمنتية أو بحواجز عسكرية ثابتة أو متحركة.
ظاهريا تبدو الإجراءات والاعتداءات الوحشية الإسرائيلية وكأنها تدابير أمنية طارئة، لمنع عمليات مقاومة مثلا أو لاعتقال مطلوبين، وحتى للانتقام من بلدة ما أو جهة سياسية معينة على قاعدة تكبيد الشعب ثمن ما يفعله أبناؤه ومناضلوه. لكن استدامة هذه الإجراءات والسياسات القمعية وبرمجتها ومأسستها لعشرات السنين يثبت أنها ليست مجرد تدابير مؤقتة، بل هي سياسات منهجية ثابتة ومخططة هدفها مواصلة السيطرة على الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم السياسية وفي مقدمتها حقهم في تقرير المصير بإقامة دولة ذات سيادة على تراب وطنهم، ونهب أراضيهم ومواردهم وحشرهم في أماكن سكناهم الحالية من دون اي مجال حيوي، وتحويل المدن والمناطق الفلسطينية إلى مساكن عمالية ترتبط بها بعض الخدمات، مع مواصلة استغلال الفلسطينيين غير المشروط باعتبارهم عمالة رخيصة نسبيا، وسوقا مستباحة للمنتجات الإسرائيلية.
ما الذي ستضيفه أي عملية عسكرية جديدة من نوع (السور الواقي 2) في معادلة الصراع سوى سفك مزيد من دماء الفلسطينيين وزيادة معاناتهم ومضاعفة مشاعر القهر والغضب في صفوفهم؟ المؤكد أن قياس أثر هذه العمليات يتم بالنظر إلى نتائجها السياسية وليس بحصيلة الضحايا، أي هل تساهم هذه العمليات في تطويع الفلسطينيين وإخضاعهم ثم استسلامهم وقبولهم بالتنازل عن حقوقهم الوطنية أو عن بعضها.
مضى أكثر من قرن على هذا الصراع الدامي، وتخلله عدد يصعب حصره من الحروب وجولات القتال والعمليات النوعية كتلك التي يهددون بها، فلم تسهم أي منها ولا مجموعها في حسم الصراع، ولم تفض إلا إلى تأجيج جذوة المقاومة. مرت على الفلسطينيين ظروف أكثر سوءا بكثير من وضعه الحالي فلم يستسلم ولم يخضع، وها نحن نشهد أن كل جيل فلسطيني جديد هو – وفق معطيات التجربة والوقائع المشهودة – أكثر تمسكا ممن سبقوه بحقوقه الوطنية والإنسانية، يمكن الحديث عن تراث نضالي غني جدا، وعن أثر ثورة الاتصالات والانفجار المعرفي في تعميم أفكار الحرية وحقوق الإنسان، وبالتالي استحالة وجود جيل فلسطيني يسلم بدونيته تجاه الإسرائيلي ويقبل بأقل من حقوقه الوطنية الثابتة.
سبق لإسرائيل أن اعترفت في الظاهر بكون الفلسطينيين شعبا ضمن رسائل الاعتراف المتبادل مع منظمة التحرير وفي بعض الاتفاقيات والملاحق، لكن في اتفاقيات أخرى كانت تصر على حصر الإشارة للفلسطينيين بكونهم مجرد سكان، والإنكار التدريجي لصفة الشعب والتركيز على صفة السكان لإنكار حق تقرير المصير، وحصر حقوق الفلسطينيين في الشؤون المعيشية وهذا ما يجسده منطق السلام الاقتصادي. ولم يقتصر الأمر على ذلك باتت النظرة الإسرائيلية للفلسطينيين ترى أنهم "مشكلة" إرهابية أو ديمغرافية، ما يعزز النظرة الأمنية لحل الصراع مع الفلسطينيين بالقوة وحدها.
وتؤكد التجارب أن جميع العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل سواء في الضفة أو غزة، أو ضد المقاومة اللبنانية لا يمكن ان تكون مجرد جولات خاطفة ونزهات سريعة خالية من الخسائر، فكل عملية عسكرية تكشف جوانب جديدة من الهشاشة والضعف. ربما تسهم هذه العمليات في تحقيق نتائج وإنجازات عسكرية، ولكنها حتما إنجازات مؤقتة سرعان ما تتبدد نتائجها، الثابت الوحيد في هذه العمليات أنها تزيد حدة الكراهية وتضاعف خزانات القهر وتؤجج المشاعر الرافضة للضيم والظلم وتغذي مزيدا من الدوافع لعمليات الثأر والانتقام.
غالبا يتخذ السياسيون الإسرائيليون، وبخاصة الصغار والمستجدون، مواقف متطرفة تتبنى خيارات الحسم العسكري، بينما يميل المختصون والمهنيون في قيادات الجيش والأجهزة الأمنية إلى خيارات أكثر واقعية تدعو للمزج بين الخيارات السياسية والعسكرية، وهكذا فالدعوات للحسم العسكري ليست بعيدة عن بازار المزايدات بين قوى اليمين واليمين المتطرف، لكن ذلك لا ينفي وجود حالة من الإجماع بين مختلف القوى والمؤسسات السياسية والعسكرية على تفضيل خيارات القوة والحسم على الخيارات السياسية لأن هذه الأخيرة تعني التراجع عن أطماع إسرائيل التوسعية والاستيطانية. كما أن طبيعة إسرائيل والدور المركزي الذي يلعبه الجيش في جميع مناحي الحياة السياسية والتربوية والاجتماعية وحتى الاقتصادية (شركات صناعة السلاح والشركات الأمنية) ، تجعل من الحروب والقتال والخيارات العسكرية مهنة تعتاش منها هذه الدولة ومؤسساتها، وتعزز دورها الوظيفي المسند لها من قبل المراكز الغربية الرأسمالية وبخاصة من قبل الولايات المتحدة في حماية مصالحها، والقيام بدور المقاول الثانوي في تنفيذ بعض أجنداتها الدولية.