- جيش الاحتلال يحاصر مدرسة عوني الحرثاني على دوار الشيخ زايد شمال قطاع غزة
تُعدّ «المدينة» شرطاً أساسياً لنشوء وتكوّن الحضارات، صحيح أن الحضارات القديمة بدأت على ضفاف الأنهار وبمجتمعات زراعية، لكنها لم تتحول إلى حضارة إلا بعد أن بنت مدينة مركزية أو أكثر. ولا تكمن أهمية المدينة بكونها المكان الذي تقيم فيه الطبقة الحاكمة والمسيطرة، بل لأنها البيئة المناسبة لبناء الطبقة الوسطى الميسورة التي تقود المجتمعات نحو التغيير والتطور، أي الطبقة التي تمتلك من الوقت والإمكانيات لممارسة أنشطة خارج متطلبات الحياة اليومية وتلبية الحاجات الغرائزية، أي إنتاج الفكر والفن والثقافة والآداب والعلوم، ومن ثم تصبح المدينة المكان الذي يسمح للتطور الاجتماعي والاقتصادي والتلاقح الفكري، وللتداخل مع الأجانب المقيمين فيها، والتفاعل مع الأمم والشعوب الأخرى.
مع أن فلسطين كانت مهيئة (تاريخياً وديموغرافياً وجيوسياسياً) أكثر من غيرها لتكوين مدن مركزية، بيد أن ذلك لم يحصل، على الأقل بالمستوى المتوقع، مقارنة بالمدن الكبيرة في الحواضر العربية المجاورة كالقاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب وبغداد والبصرة، وحتى بيروت.
وبالعودة قليلاً إلى التاريخ، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب كانت اللد مرشحة للعب دور كبير، بعد أن اتخذها عمرو بن العاص عاصمة لجند فلسطين، وفي العصر الأموي اهتم الخلفاء بفلسطين عموماً، إذ إن معاوية بويع للخلافة في بيت المقدس، والتي منحها من أتى بعده مكانة خاصة، فبنى فيها عبد الملك بن مروان قبة الصخرة، كما بنى سليمان بن عبد الملك مدينة الرملة، وكان أهل فلسطين والشام يشكلون الجزء الأكبر من الجيش الأموي الذي نفذ الفتوحات القريبة والبعيدة، حتى أن موسى بن نصير كان فلسطينياً.. بيد أن فلسطين ستدفع ثمن «أمويتها» في العصر العباسي، حيث أُحرقت مدنها، وأُهملت، وهُمـِّـشت، وظلت منسية وضحيةً للصراعات الدائرة من حولها، حتى جاء «ظاهر العمر» في القرن الثامن عشر وجعل من «عرابة» عاصمة الجليل ومركز الحكم ضمن أول محاولة لبلورة كيانية وطنية فلسطينية، ولكنه فشل، وانهار مشروعه.. وما كادت عكا تكون حاضرة فلسطين حتى جاءت حملة نابليون لتدمرها وتقتل أغلب سكانها، ثم جاءت جيوش «محمد علي» لقمع السكان الثائرين ضد مظالم الدولة التركية فدمرت أجزاء من يافا ونابلس.
وبعد أربعة قرون من التهميش والإفقار، تخلصت المنطقة من الحكم التركي، وما إن بدأت فلسطين تلتقط أنفاسها، وتعيش حالة نهوض سبقت بها كل جيرانها، وغدت يافا والقدس مراكز حضرية منافسة، وتعد بالكثير، حتى جاءت بريطانيا ومعها انتدابها الاستعماري ومشروعها الصهيوني، والتي جوبهت بالمقاومة والثورات الشعبية.. وإذا كانت ثورة 1936 قد أضرت كثيراً بالاقتصاد، وأعاقت نمو المدن الفلسطينية، فإن نكبة 1948 قد قضت عليها تماماً.
وهكذا، طوال تاريخ فلسطين، ظل الشعب الفلسطيني يعاني من معضلة عدم تمكنه من تكوين مدينة كبيرة «كوزموبوليتانية»، حيث تتجمع فيها الأفكار والتيارات والطوائف والطبقات المختلفة والمتباينة، وتطور أساليب حياتها وتفكيرها وفنونها ومعمارها بشكل عصري، وتكون مرجعاً ثقافياً ومركزاً حضارياً.. في كل مرة تقترب من هذا الهدف تواجه حرباً أو غزواً أو احتلالاً.. فتنتكس وتفشل. ولم تكن الحروب والاحتلالات السبب الوحيد، فربما نضيف هيمنة الثقافة الريفية والعقلية العشائرية حتى في قلب المدن.
المدن التي كانت مرشحة لهذا الدور: القدس، يافا، عكا، حيفا، نابلس، غزة، الخليل.
ولكن إسرائيل ومنذ قيامها ظلت تسعى بشتى السبل لاغتيال أي حركة أو تطور مدني فلسطيني، فقد قتلت يافا لتحيي تل أبيب، وتسعى لتهويد القدس، وفي سائر المدن التي رزحت تحت الاحتلال الأول كحيفا وعكا وعسقلان كانت تمارس ضغوطاً شديدة على سكانها حتي ينزووا للداخل نحو التجمعات القروية والبلدات بعيداً عن الساحل.
وبعد نكسة حزيران تكثفت حملات تهويد القدس وطمس هويتها الفلسطينية.. أما الخليل فمن أوائل المدن التي استهدفها الاحتلال، بالحصار والاستيطان.. وفي انتفاضة الأقصى كانت نابلس الضحية الأكبر، حيث تعرضت لحصار خانق أدى إلى نشوء أربعة مراكز تجارية وإدارية من حولها لتعويض خسارتها مركز الصدارة الاقتصادية.
كان يفترض ببيت لحم أن تكون مدينة عالمية؛ نظراً لمكانتها الدينية، ولأن إسرائيل عجزت عن ضمها للقدس، فقد سعت لأن تظل مدينة صغيرة محاصرة، حتى أنها تحجب عنها الحجاج والسياح بطرق عديدة ماكرة.. حتى أريحا مرشحة لأن تكون مدينة كبرى.. ربما تكون رام الله وحدها من اقتربت لأن تغدو مدينة «كوزموبوليتانية» لأسباب جيوسياسية، ولأنها تميزت عن غيرها بانفتاحها وليبراليتها وتنوعها وأجوائها العصرية والحداثية.. لكن الاحتلال واقف لها بالمرصاد، كما يفعل مع سائر مدن فلسطين.. يحاول قتلها أو على الأقل يمنعها من التطور.
لنأتِ إلى غزة، بحسب ما كتب ابنها «محمد العبد الله»؛ بعد النكبة لم يبقَ للشعب الفلسطيني حاضرة ساحلية غير مدينة غزة، مدينة تم هدم 60% منها في الحرب العالمية الأولى، وتم تعطيل نموها المدني خلال حقبة الحكم المصري، وأدخلت لها إسرائيل الكهرباء في السبعينيات وطورت ميناءها نسبياً في نفس الحقبة، لكنها ما كانت لتأخذ شكل المدينة.. ومع مجيء السلطة الوطنية بدأت محاولات إخراج غزة من حالتها المترددة بين الريف والمدينة لتكون مدينة كبرى وحاضرة ثقافية، كان ياسر عرفات يدرك جيداً كل ما سبق، لذا انصب تركيز السلطة على غزة من 1994 وحتى اندلاع الانتفاضة في الـ 2000، خلال هذه الفترة قفزت غزة قفزة مدنية كبيرة، وكانت في طريقها لأن تكون أكبر وأكثر ازدهاراً لولا الانتفاضة الثانية، والتي ما كادت تنتهي حتى جاءت «حماس» وسيطرت على القطاع منذ العام 2007، ومن بعدها تعرض القطاع لسلسلة حروب عدوانية شنتها إسرائيل، وألحقت بمدن القطاع دماراً كبيراً، لكن غزة مع ذلك، ورغم الحصار ظلت مزدهرة، تصدر الفاكهة والخضراوات، ولديها صناعات متنوعة، وحركة تجارية، ورياضيون وموهوبون وفنانون وأدباء ونسبة مرتفعة من حملة الشهادات العليا، وطاقات شابة، وطبقة وسطى مثقفة، وكادر إعلامي متميز.
مع أن غزة أضاعت فرصتها لأن تتحول إلى سنغافورة بعد الانسحاب الإسرائيلي، لكنها رغم ذلك بدأت تصنع حاضرة فلسطينية ساحلية واعدة، حتى 7 أكتوبر، وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية التي حطمت الحلم، ودمرت نتاج عقود طويلة من الجهد والشغل والعمل الدؤوب، بل ودمرت تاريخ وتراث غزة ومواقعها الأثرية وجوامعها وكنائسها وأسواقها القديمة، ومدارسها وجامعاتها ومكتباتها ومراكزها الثقافية.. خسارات يتعذر تعويضها.