- صفارات الإنذار تدوي في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة
- إعلام الاحتلال: الجيش الإسرائيلي يدعو سكان جنوب لبنان إلى عدم التحرك صوب القرى المخلاة
- وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان يدخل حيّز التنفيذ
كشفت غزة المشهد العربي كاملا. عالم عربي به كم هائل من البشر والموارد، وعناصر كامنة للقوة بلا حدود، يعاني من "فائض" ضعف أدخله في حالة فقدان للوعي، مسلوب للإرادة، أخرج نفسه من التاريخ، و"يسعى" لحرمان نفسه من المستقبل. عالَم "مُصِر" أن يبقى بلا مشروع، وبلا رؤيا، وحتى بلا أفق.
هذا هو حال "النظام" العربي الرسمي الحالي. غاب الزعماء المعنيون بنهوضه، واختفت المؤسسات التي يمكن أن تقوم بالدور عندما يغيب الزعماء، ولم يبق له إلا الاستعانة (الاستقواء) بالخارج، والارتماء في احضانه، والأكثر غرابة أنه اختصر كل الخارج في "عدوه" التاريخي.
"نظام" إرتاح لضَعفه، واقتنع بأن أقصى طموحه هو رضى "عدوه" عنه، وأكثر مَن "يستفزه" مَن يحاول استنهاضه، وأسوأ كابوس يمكن أن يخطر بباله هو "انتصاره"، فهو لا يستطيع أن يتخيل نفسه منتصرا، فلذلك عواقبه وتكاليفه، لذلك هو "يبذل جهدا" لا ليظهر كغير قادر على النصر، بل كغير معني به من الأساس.
شيء من التاريخ
فشل المشروع الناصري، وهو المشروع العربي الأبرز في تاريخ المنطقة المعاصر، في تحقيق هدفه المعلن، الوحدة العربية. لكنه نجح في تكريس "العروبة" التي تجسدت على شكل "نظام" عربي استطاع الاستمرار لسنوات بعد غياب مؤسسه (حتى زيارة السادات للقدس )، ووجدان عروبي ما زال مستمرا حتى الآن، وإن كان قد تلقى ضربات أفقدته كثيرا من توازنه.
حارب "الاستعمار" المشروع الناصري بنهجين "داخليين" كانا على قدر كبير من الفاعلية، القُطرية كشعار رُفِع في وجه الوحدة، و"الاسلاموية" كشعار (وأيديولوجيا) في وجه العروبة.
ادركت الجهات التي دفعت لاستخدام هذين "الشعارين" مدى تأثيرهما، فقد كانت "القْطرية" جاذبا أساسيا لأوساط واسعة من النخب التي شكلت القاعدة الاجتماعية- السياسية للأنظمة، وكانت "الاسلاموية" جاذبا كبيرا لأوساط عريضة من الجماهير. بهذه العوامل، وبهزيمة 1967، تصدع المشروع الناصري العروبي، وذهبت المنطقة الى الايغال في القطرية كنظام سياسي، وفي الاسلاموية كأيديولوجيا.
القُطرية... أساس النظام الجديد
ليست مشكلة القطرية الأساسية في خلق كيانات (دول) على أجزاء من جغرافيا تم فصلها عن سياقها التاريخي، بل في تحويلها الى "ايديولوجيا" معادية لذلك السياق، وذلك في "تَصورِ" مصلحةٍ لكل دولة متعارضةً مع مصلحة الدول الشقيقة الأخرى التي نشأت على شاكلتها، وكذلك مع إرادة الأمة وقضاياها الكبرى.
القطرية تعتبر "الأمة" وقضاياها عبئا على الدولة، وتفسر قصورها البنيوي في إيجاد حل لمشاكلها الى الارتدادات التي تنعكس عليها من تبنيها "غير المبرَر وغير المجدي" لتلك القضايا.
لقد وجدت الدولة "مصلحتها" في الانعزال الاختياري و"الانتقائي" عن "الأمة" حسب الحالة، وفي التخلي عن قضاياها الكبرى خاصة القضية الفلسطينية، التي لم تَعُد الأنظمة تعتبرها قضية "كبرى" إلا لكونها الأكثر "استفزازا" للغرب، وليس لأية اعتبارات أخرى. انها تنطلق من نظرتها للقضية الفلسطينية، لا كحق مغتصب يجب استعادته، ولا كظلم يجب رفعه، بل كمصدر لجلب المتاعب يجب الخلاص منه.
القُطرية تذهب بالدولة الى المزيد من التقوقع على نفسها، والتبرؤ من كل ما قد يتسبب فيه "الشقيق" من اشكالات، وما قد يترتب على "أُخُوته" من مسؤوليات، وإلى رفع شعار أولوية مصلحة الدولة (جيبوتي أولا على سبيل المثال)، وفي نفس الوقت، تذهب بالدولة للتطبيع أو لمزيد منه مع إسرائيل، تأكيدا لانفصالها عن قضايا امتها، وابتغاء لمرضاة أمريكا.
القطرية والهوية
من أهم وأخطر وربما "اصعب" مهمات النظام السياسي في الدولة القطرية، خلق هويتها الخاصة، وتَسَيُد تلك الهوية على حساب الهوية الأكبر والأكثر أصالة، والتلاعب "الوظيفي" بتلك الهويات المتعددة من خلال اعتبارها هويات متناقضة، واستخدام كل منها في مواجهة الأخرى.
الهوية القطرية هي أساس الدولة في النظام العربي الجديد. مطلوب منها أن تنمو باستمرار، حيث يُسَخر لذلك التعليم والإعلام ودور العبادة وكل المؤسسات المؤثرة في القيم، ومطلوب أن يكون نموها ليس الى جانب الهويات الأخرى الموروثة بل على حسابها.
ربما يكون المثال السعودي في التعامل مع الهويات كأدوات وكميادين للصراع، هو الأوضح. فإلى جانب "خلق" الهوية السعودية وترسيخها إثر تأسيس المملكة، تم استخدام الإسلام في مواجهة النظام العروبي بقيادة مصر الناصرية. بدا ذلك طبيعيا ومفهوما حيث الحديث عن بلد الإسلام الأول، لكن "الغريب" في الأمر، أن السعودية تخلت عن تبني الإسلام واعتمدت "العروبة" في مواجهة ايران الاسلامية.
على ما يبدو، أن القطرية التي تفضل هويتها الخاصة، لا تطيق "تصالحا" بين الإسلام والعروبة، حيث التلاقي بينهما مؤشر على نهوض الأمة، واختلافهما مؤشر على نكوصها، والأنظمة القطرية لا تستطيع أن ترى سلامة وضعها إلا في ظل "تراجع" الأمة.
لا تطمئن الدولة القطرية الى ديمومة وجودها إلا بغياب الأمة أو تغييبها، على شكل تغييب قضاياها - مع أني أرى أن ذلك ليس بالضرورة - ، لذلك هذا الإصرار على تغييب القضية الفلسطينية، وأبرز مظاهر تغييبها هو التطبيع مع إسرائيل.
لذلك ذهبت هذه الدول القطرية الى التطبيع بهذا "العنفوان". وحتى يتم ذلك بعيدا عن "منغصات" العروبة والإسلام التي تُذَكر بأشياء لا يجب تذكرها في هذه الحالة، وتعتبر من "سوء الطالع"، جرى تصنيع "الابراهيمية" كهوية ودين و"ايديولوجيا" للتطبيع، تصلح للاستخدام ضد الإسلام والعروبة معا، وتعفي المطبعين من ضرورة "التنقل" الذي بات متعبا ومكشوفا بينهما.
فالابراهيمية تعتبر رافعا مضمونا للقطرية في النظام العربي الجديد، بعكس العروبة والإسلام. لكن المشكلة أنها خَيار استشراقي صنعها خبير في النصوص، لكنه بالتأكيد لا يعرف وجدان الشعوب.
النظام العربي الرسمي الجديد
أكدت غزة مؤخرا موت النظام العربي القديم بعد فترة "الكوما" التي عاشها لفترة طويلة، وولادة نظام جديد مبني أساسا على القطرية، وحد أدنى من العمل "المشترك" بمؤسسات وتوجهات مغايرة تماما لتوجهات النظام القديم (الناصري وامتداداته)، الذي تبنى تمثيل الأمة وقضاياها.
تجاوز النظام الجديد سلفه في مؤسساته ونشاطه، فذهب الى تغيير كلي في التوجه. فالقديم هزُل لدرجة فقدانه كل إمكانية للمواجهة، في حين قرر الجديد ليس فقط التخلي التام عنها بل الانتقال العلني والواضح والكُلي الى الجبهة المقابلة. ضعف القديم لدرجة أنه وصل الى مرحلة أدرك فيها أنه لا يمكنه الانتصار، بينما قرر الجديد الاقتناع بضرورة عدم الانتصار. النظام الجديد مٌفرَغ تماما من أية رؤية تحررية للمنطقة، ومؤمن بضرورة الاندماج الكامل مع "الاعداء" التاريخيين للأمة.
بقدر ما يبدو النظام العربي الجديد ضعيفا أمام الخارج ومستسلما له، يبدو شرسا في الداخل، الدولة ضد "مواطنيها"، وضد الدولة "الشقيقة" إلا إن أرادت امريكا غير ذلك، وحتى ضد من يتجاوز "حدوده" من مواطني الدول الشقيقة. لذلك يجري تسخيف المشاكل مع الخارج وتضخيمها في الداخل (داخل النظام وداخل الدولة)، وعادة ما يتم "تجاهل" أي "إشكال" مع الخارج، والتصدي الحازم لأي إشكال يصدر عن "شقيق".
لدى النظام العربي الجديد مشكلة عميقة مع فهم "الأمن القومي" العربي، لدرجة تم التعامل معه كحالة من "الوهم". اختل المعيار الذي يُحَدد به الأصدقاء والأعداء، فحدثت فوضى عارمة في هذا المجال. لم يتخل النظام فقط عن مشروع سلفه، بل يرفض أن يكون له مشروعا. لذلك نجده دائما مُلحقا بالخارج وخاضعا لتأثيراته، وينسبها "للداخل"، فأصبح نظاما لا يتقن "التآمر" إلا على نفسه، وأكثر ما يكره في الدنيا نفسه.
في النظام العربي الجديد اختفى "الزعماء" الذين يهتمون بمصير الأمة وكرامتها ويمثلون ارادتها، فلم نعد نرى زعماء مثل عبد الناصر وبومدين على سبيل المثال (أيا كان الموقف منهما ). فزعماء اليوم يذكروننا ببريجنيف وغورباتشوف مجتمعين، حيث التكلس والتيبس في الأول والرعونة والخِفة والتخلي في الثاني... هو "مزيج" لا ينتج عنه إلا الضياع.
نظام يُنتج نقيضه
كان لا بد لهذه الحالة من الفراغ التي يعيشها النظام العربي الرسمي والدولة القطرية العربية المعاصرة، إلا أن تُنتج نظاما موازيا من خارج الأطر الرسمية للدولة، فهذه الحالة اللا معقولة من التخلي، ومن الغياب الهائل، لا تنسجم مع التاريخ، ولا مع المنطق، ولا مع الطبيعة.
فالدولة التي من واجبها الدفاع عن شعبها وقضاياه تبنت وجهة نظر "اعدائها"، وفقدت كل مظاهر سيادتها "فعوضت" ذلك بمزيد من التسلط في الداخل، وأكثر ما تنتجه هو خيبة الأمل وانسداد الأفق.
في النظام العربي الجديد، تغير "شكل" الزعامات، وشكل الجيوش، وشكل السياسة وشكل الأحزاب وشكل السلطة وشكل المعارضة. هو لوحة "سريالية" تحتاج لخيال استثنائي لتصوره.
دفع ذلك بإتجاه خلق نظام "مواز" من خارج الدولة والنظام ومن خارج المشهد الرسمي. نظام من الشعب أو من "بعضه"، لم يستولي على الدولة بل تبنى واجباتها ولا يريد منها إلا "الإبتعاد عن طريقه". تجنب نقاش "الشرعية" لكنه اكتسب ثقة المحرومين و"المرجعيات". لم ينقلب على الزعماء الرسميين لكنه أنتج "زعماءه"، ولم "يحتل" المؤسسات الرسمية لكنه أنتج "مؤسساته"، ولم يحارب الجيوش الرسمية لكنه امتلك سلاحه الخاص.
والأنكى والأمرّ ليس فقط بقبول الدولة القطرية بهبوط سقوف تطلعاتها، بل في أن الأجيال الجديدة قبلت بهذا الوضع على انه أعلى السقوف الممكنة، مما يمهد المناخ لتنازلات أخرى.
في العالم العربي الآن نظامان، رسمي وغير رسمي، يتصارعان احيانا و"يتساكنان" احيانا، وكل منهما له مشروعه المختلف، ومرجعياته المختلفة، ومؤسساته المختلفة، وادواته المختلفة، وتحالفاته المختلفة، ونظرته المختلفة للماضي والحاضر والمستقبل، ودوره في "الصراع" الاقليمي، وفي رسم مستقبل العالم.