الكوفية: ليست رغبة طفولية للحنين للأب الذي غادر قبل الأوان.. بل لأن البشر حين يستبد بهم الحزن يشكون للأموات وجع القلب .. أرسلنا لك ما يكفي من الشهداء .. حدثوك عن سنوات ما بعدك منذ الرحيل، أحد عشر عاماً كنت تعتقد أننا كبرنا ما فيه الكفاية ... نضجنا .. بنينا الدولة .. حدثوك عن تفاصيل الألم لكن قد يكونوا نسوا شيئاً ما أو سقط سهواً في رحلة شهادتهم المكللة بالغار، كان عقداً حزيناً بامتياز منذ ذلك اليوم القاسي من أيام الخريف الذي حمل لنا نبأ رحيلك. فخامة الشهيد .. حتى لحظة التأبين الأخيرة وأنت تطل برأسك من التابوت مودعاً القلوب التي تبكيك .. لحظة أرغمتنا أن نصطف موحدين في وداعك، كانت تلك الأخيرة ولكن بعدك كأن تلك الوحدة غادرتنا معك إلى ضريحك .. فقد اقتتلنا على التركة ورفعنا السلاح في وجه بعضنا وقتل كل منا الآخر حين فشلنا في تقسيمها أو بتقاسمها فانقسمنا إلى يومنا هذا وقد وصل بنا الانقسام إلى أننا لم نستطع احياء ذكراك الحادية عشر فلا تسامحنا. لا تصدق الشهداء إن قالوا كلاماً جميلاً معطراً بعبق الشهادة .. فحالنا أكثر بؤساً نحن منقسمون.. ومشتتون.. يشتم كل منا الآخر ولا يثق أي منا بالآخر فالصراعات تنهشنا ونحن نكسر عظام بعضنا، بعدك أصبحنا قبائل متناحرة ولم يعد لدينا مشروعاً واحد، كل منا يذهب بمشروعه إلى حيث يرتطم بنا بالحائط حد الادماء. بعدك يا فخامة الشهيد مرة واحدة أجرينا عملية انتخابات وكسرنا الصناديق بعدها وكسرنا إرادة أجيال حالمة، وأصبنا بشلل دستوري لم نشف منه بعد، فقد بات مزمناً أو هكذا أريد لنا ومنه دخلنا في غيبوبة سياسية واجتماعية واقتصادية ووطنية لا نعرف إن كانت ستعود لنا الحياة أم لا، كل محاولاتنا فشلت حتى اللحظة. بعدك أصبحت السلطة سلطتين وكل سلطة بلا سلطة، وكل سلطة تقاتل الأخرى، بعدك انفصلت غزة عن الضفة، كل منهما دولة واحدة، قد دخل انقسامهما عامهم التاسع أي بعد عامين على غيابك فعلنا بأنفسنا ما لا يفعله الأعداء بنا ... بعدك نزلنا عن الجبل وسط المعركة وانشغلنا في حروب الغنائم فسقطنا جميعاً بلا غنيمة سوى الحكم والتحكم بأبناء جلدتنا. بعدك ابتلع الاستيطان الضفة الغربية ولم يبق متسعاً لانشاء حلمك هناك، في الضفة أصبح المستوطنون هم سادة المكان يعيثونه فساداً وخراباً وقتلاً وحرقاً، أما غزة فتلك قصة أخرى ... فقد تأبطتها حركة حماس فحوصرت وحاصرتنا معها منذ سنوات، انهكت من شدة الجوع والمرض وحروب ثلاث دمرتها، معابرها مغلقة، أهلها سجناء لا يغادرون سجنهم .. فلا مطار الذي كان يوماً ولا ميناء الذي وضعت حجر أساسه ومعبر رفح صار جزءاً من الماضي. غزة بعدك تعيش اليتم الحقيقي .. تتذكر مكتبك الصغير الذي كان يغطي مرضاها وفقراءها ومحتاجيها والحزانى الذين كانوا يجدون فيك ملاذهم الأخير... غزة مهانة لا أحد يريدها يوصدون في وجهها جميع الأبواب، لا أحد يسأل عنها ولا عن وجعها وأنينها .. أتذكر؟ حين أعدت لها الحياة بعودتك وعادت إليها الناس، الآن سكانها يرغبون بالهروب منها فهي بلا عمل، طوابير من البطالة، مكان مزدحم بالبائسين الذين شاء قدرهم أن يكونوا ضحية الصراع على السلطة .. لقد داستهم الأقدام وأصبحوا كالأيتام على مائدة اللئام يتذكرون عهدك يوم أن بنيت لهم المطار وسلطة كانت للعامل والفقير والجائع والمريض لكل هؤلاء الذين بكوا يتمهم ولا زالوا يذرفون الدموع لذا تتذكرك غزة دوماً كإبنها المخلص وأباها المٌخلّص. بعدك يا فخامة الشهيد دخلنا في التيه، يتلاعب بنا من شاء .. بعدك سفر من الأحزان كتبنا صفحاته بأيدينا .. ودرب من الآلام عبدته ثقافتنا وعقولنا، بعدك كأننا عدنا إلى البدايات ... كأنك تركتنا قبل أن ننضج بعد .. لم نتقدم نحو الطريق الطويل لكن شعاراتنا كانت أطول من كل الدروب .. لم أراسلك لازعاج راحتك بين أحضان الملائكة .. بل لتعرف شدة توقنا الجماعي لك كرجل أسكن شعبه بين مقلتيه وما أن غادر حتى أفقنا على الكابوس لنصرخ بصوت واحد أين ياسر عرفات ..؟؟