صمت دهرا ونطق كفرا، هذا ما فعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الثامن والعشرين من يناير المنصرم. كثرت الزيارات واللقاءات والأبحاث، التي يجريها منذ زمن الفريق الأمريكي المكلف بإنجاز ما اعتبره الرئيس ترامب صفقة العصر، التي يتوهم أنها من وجهة نظره ستعالج أعقد قضايا العصر، والتي فشل في معالجتها المجتمع الدولي والإدارات الأمريكية السابقة.
"الوعد الترامبي" انطلق من فوزه في الانتخابات الرئاسية، ولأنه لا يستند إلى مرجعيات قانونية وحقوقية معترف بها، ولا إلى الإرث الكبير غير المفيد الذي خلفته الرباعية الدولية، فقد جاء المولود مسخًا مشوهًا، أوكما يقول المثل الشعبي المعروف "تمخض الجبل فولد فأرا". ليس غريبا عن رئيس غريب الأطوار، يقف على رصيد صفر في علوم السياسة، وكل ما يملكه شخصيته الطاووسية المتغطرسة، وبراعته في تصميم الصفقات العقارية، أن يحاول الدخول إلى بوابات التاريخ من الباب الذي دخله وزير الخارجية البريطاني السابق بلفور، الذي ما كان للتاريخ أن يذكره، حتى بسوءة تستحق الذكر، إلا بخطيئة وعده المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولأنه فقط يسعى لتخليد إسمه ولوبأسود الصفحات، ولأنه أيضا عديم المعرفة بأصول السياسة، اعتقد وما يزال ترامب أن ما أعلنه أمام العالم يوم الثامن والعشرين من الشهر المنصرم، يمكن ان يشكل صفقة بضمان موافقة الفلسطينيين عليها، وبذلك يكون قد حقق السلام المفقود في هذه المنطقة المضطربة. تأجيل للإعلان عن الصفقة بعد تأجيل، إلى أن حان وقت الاستثمار في اللحظة التي يحتاج فيها توأمه بنيامين نتنياهو، إلى الإنقاذ، ويحتاج هو ذاته إلى تحشيد الحركة الصهيونية خلفه لتحسين وضعه الانتخابي، وسمعته التي تعرضت للتشويه على خلفية التحقيقات التي أجراها الكونغرس تحت عنوان عزل ترامب.
كان نتنياهو يحتاج إلى هذا الإنتاج التاريخي للحركة الصهيونية، لكي يتجاوز التحقيقات التي تلاحقه بتهم الفساد، والمنافسة القوية من قبل غريمه بيني غانتس حتى يعود للناخب الإسرائيلي على صهوة حصان أبيض، يقفز من فوق كل العقبات، لكي يعيده إلى سدة العمل السياسي. الصفقة الترامبية أحدثت ما يشبه الزلزال في المنطقة والعالم. بسبب طبيعتها الفجة ونسفها للقانون والقرارات الدولية ذات الصلة، ولأنها وصفة أكيدة لاشتعال المنطقة وليس لتحقيق السلام. قلة قليلة من الدول ترحب بالصفقة من باب ممالاة الولايات المتحدة أوخشية تعرض مصالحها للخطر أو بسبب خضوعها، أما بقية دول العالم والمؤسسات الأممية والإقليمية والعربية والأفريقية فقد أعلنت رفضها. حتى الداخل الأمريكي والداخل الإسرائيلي يشهدان حراكات واسعة ونشطة لمعارضة الصفقة، فلقد وقَّع مائة وسبعة أعضاء كونغرس من الديموقراطيين عريضة تحمل صراحة موقفًا رافضًا للصفقة، وفي إسرائيل تتزايد الأصوات الرافضة لها، وفي الحالتين ثمة وعي للمخاطر الناجمة عن تنفيذها. قد لا يدرك ترامب وزملاؤه اليمينيون المتطرفون في إسرائيل، الذين يحتفلون بما يعتقدون أنه إنجاز تاريخي، بأن هذا الإنجاز الذي يترافق مع تزايد العنصرية في إسرائيل هوالسبيل الأكيد لتقصير عمر الدولة العبرية.
إن أفضل حل ممكن يساعد على إطالة عمر إسرائيل هو إقامة سلام مع الفلسطينيين على أساس رؤية الدولتين وقرارات الأمم المتحدة، التي تقلص الحقوق الفلسطينية الى إثنين وعشرين في المئة فقط من أرض فلسطين التاريخية. ما تفعله الصفقة الترامبية أنها بقضائها على هذه الإمكانية، إنما تكون قد دفعت الصراع إلى بداياته الأولى، بما أنه صراع على كل أرض فلسطين التاريخية، وعلى كل الحقوق، أي أنه صراع وجود وليس صراع حدود.
الاندفاع نحوهذا الصراع المفتوح لم يكن خيارًا فلسطينيًا أوعربيًا، فلقد عرض العرب خطة سلام مجزية لإسرائيل في قمة بيروت عام 2002، لكن شارون بادر آنذاك للإعلان عن رفضها إعادة احتلال الضفة الغربية من خلال حملته المعروفة بـ “السور الواقي”. صحيح أن الأوضاع الفلسطينية والعربية في المرحلة الراهنة ليست بأفضل أحوالها، وصحيح أيضا أن المجتمع الدولي يمر في مرحلة انتقالية نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لكن هذه من وجهة نظر استراتيجية ليست سوى واحدة من تعرجات حركة التاريخ الصاعدة دوما إلى الأمام. لم يشهد التاريخ حالة معروفة تم فيها القضاء على شعب بالكامل، فالأرمن رغم المجازر التي تعرضوا لها لا يزالوا موجودين، والأكراد كذلك، وحتى تاريخ الشتات اليهودي ذاته يشهد على ذلك رغم ما تعرضوا له من محاولات للتخلص منهم. تتجاهل صفقة ترامب الإجابة عن سؤال: ما الذي سيحصل لشعب تعداده يتجاوز الثلاثة عشر مليون انسان، ويتمتع بحيوية استثنائية يشهد لها الواقع، ويشهد لها عديد الكتاب والسياسيين الإسرائيليين؟. لعل أصدق ما قيل في هذه الصفقة، ما أعلنه رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم، في اجتماع البرلمان العربي، حين قال باختصار: إن المكان الملائم لهذه الصفقة هو مزبلة التاريخ. لقد ألقاها فعلا في سلة مهملات موضوعة تحت قدميه.