مئات ملايين البشر على هذه الأرض، إن لم يكن أكثر، يتابعون الأحداث الصاخبة الجارية في الولايات المتحدة منذ بضعة أيام. المشاعر ليست مختلطة، ولا هي باردة، إزاء نظام الشر القائم في إمبراطورية الرأسمالية المتوحشة. هذه هي أميركا، التي حملت ميراث الاستعمار القديم، ونشرت أدواتها في مختلف أرجاء الأرض، تمتص دماء الجميع، وتنحاز للظلم والظالمين.
أميركا الدولة الأعظم تعاني من رهاب النزول عن القمة، فيليق بها رئيس من النوع الموجود في الإدارة منذ ما يقرب من السنوات الثلاث. أقرب إلى السايكو في تصرفاته إزاء قضايا كبرى، وشعبوي بامتياز، ما ينزع عن السياسة التي يقودها، هيبة القيادة المسؤولة، ويحيلها إلى ميلودراما. لكنها مؤذية على كل حال. كالثور الهائج يضرب في كل اتجاه من دون أي تمييز بين عدو وصديق، فالكل أعداء ما عدا إسرائيل الصهيونية. تتلبّسه أوهام جنون العظمة، وربما كان يعتقد هو الآخر، أنه مكلف من الرب. لا يتوقف عن الصراخ وإطلاق التهديد والوعيد، مرة بنشر الجيش، ومرات، باستخدام كافة الوسائل لإخماد النيران التي تجتاح أميركا هذه الأيام على خلفية جريمة مينسوتا. جريمة مينسوتا تقدم نموذجاً لعنصرية متفشية في الولايات المتحدة، تختص بها الأحياء التي يسكنها السود والفقراء من غير ذوي العيون الزرقاء والبشرة البيضاء. بدم بارد وبتحد صارخ للقانون والمشاعر الإنسانية يقْدم شرطي أبيض على قتل الرجل الأسود جورج فلويد، بطريقة تنضح بالحقد العنصري. يُقتل الرجل ذي الستة وأربعين ربيعاً، خنقاً تحت ضغط حذاء الشرطي، الذي يعرف أن فعلته مكشوفة بالصوت والصورة أمام العالم وليس فقط أمام المجتمع الأميركي. ما كان لهذا الشرطي أن يفعل ما فعل، لولا الشعور بالحماية وبأنه سيلقى ترحيباً بل تصفيقاً لما فعله من قبل جزء كبير من المجتمع الأميركي الذي يرى في ترامب رمزاً للعظمة والقوة. على مستوى النخبة في أميركا سواء كان في العمل العام أو الحكومي أو الخاص، أو على مستوى الأعمال، والمال، والعلم، يصعب ملاحظة الأفكار والممارسات العنصرية لكنها موجودة، تغطي عليها لغة المصالح. حين يخرج الأمر إلى الأحياء الفقيرة، التي يقطنها في الغالب مواطنون من أصول افريقية أو اميركية لاتينية، فإن العنصرية تفضح نفسها وتشير إلى طبيعة الوجه المتوحّش للرأسمالية التي لا تتورع عن مص دماء البشر. ثمة مفارقة فيما تشهده الساحة الداخلية الأميركية، إذ يعتقد البعض أنه قد يقوض شعبية ترامب وبالتالي لا يحظى بفرصة ثانية في الانتخابات التي ستجري في أيلول من هذا العام. نخشى أن يكرر ترامب تجربة نتنياهو من حيث أن هذه الأحداث تساعده على تعبئة فئات جديدة من العنصريين لصالحه في الانتخابات. وإذا كان من شبه المستحيل أن يقع انقلاب ضد الإدارة، أو أن تستقيل تحت ضغط الاحتجاجات المتواصلة، فإن المراهنة على سقوط ترامب أمر ينطوي على مغامرة.
معلوم أن الولايات المتحدة دولة قانون، ولا يمكن أن تتكرر فيها المشاهد التي اجتاحت الدول العربية خلال مرحلة ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وبالتالي فإن أي حديث أو مراهنة أو حتى تفكير بأن ما يجري قد يؤدي إلى تغيير في السياسة أو الإدارة، ليس سوى نزعات رغبوية لا علاقة لها بالواقع.
من الطبيعي في مثل هذه الأوضاع، ان تعم الفوضى، وتنتشر السرقات، واجتياح المحال التجارية، كشكل من أشكال الانتقام، أو كانعكاس لحالة الفقر والعوز، لكن ذلك ليس مبرراً لأن يعمم ترامب هذا السلوك على الاحتجاجات وكأن الأمر يتعلق بانتفاضة حرامية وليس بسلوك عنصري.
ثمة ما يلفت النظر، أيضاً، إذ ظهرت مؤشرات رفض وتحد لسياسة ترامب إزاء كيفية النظرة والتعاطي مع الجريمة والاحتجاجات التي اندلعت بسببها. ثمة، أيضاً، ما يدعو للخجل إزاء ردود أفعال الحكام والمسؤولين العرب، الذين صمتوا صمت القبور، بينما هم من أصحاب البشرة التي تتعرض للعنصرية والكراهية من قبل فئات واسعة من ذوي البشرة البيضاء وتتواطأ معها مؤسسات رسمية وشبه رسمية.
من بين الكم الكبير من المعلومات والمشاهد التي رافقت الاحتجاجات راعني لافتة حملها شاب كتب عليها "لسنا عرباً حتى تقتلونا ونظل صامتين". إذا كان هذا هو الانطباع السائد وفيه قدر من الصحة، لأن الأمر لا ينطبق على كل العرب، فإن على العرب أن يقفوا أمام المرآة. أما الاستخلاص الأخير، فهو أن أميركا تتجه نحو التراجع، والأرجح، أيضاً، نحو التفكك كما حصل للاتحاد السوفياتي.