تعتبر فلسطين نموذجاً رائعاً في التاخي والتعايش الإسلامي المسيحي، وقفوا جنباً إلى جنب في البناء والتعليم والصحة ... وغيرها من المجالات، وتجدهم يداً واحدة تبطش بكل قوة في وجه الاحتلال الاسرائيلي الغاشم، فترى المسيحي بصليبه يحرس الأقصى المبارك ويذود عن قبة الصخرة، والمسلم يجلس حارساً على بوابة القيامة حاملاً مفاتيحها ليلاً نهاراً، يرعى شؤونها ويذود عنها...
ووفقاً لتقرير منظمة الشفافية العالمية اشار الى انه عربيا، كانت الصومال الأكثر فساداً حيث احتلت المرتبة الأخيرة (180)، وسبقتها سوريا واليمن حيث تشاركت الدولتان في المركز (178)، فيما احتلت الإمارات المركز الـ 23، برصد (70 نقطة) لتكون بذلك أقل الدول العربية فسادا.
يعتبر الفساد افة المجتمع، فهو افة تتغلل في كافة مناحي الحياة اليومية، بداية من الأسرة التي تميز بين فرد واخر، وتحابي لنفر دون سواه، مرورا بالمدرسة التي يكون لها الدور الأكبر في زرع الفساد والخراب في نفوس الطلبة من خلال التمييز والمحاباة وتفضيل طالب على اخر دون سبب لمجرد قرابة أو مصلحته مع أستاذ ما، وإذا ما توسعت الدائرة نرى الفساد يكبر أكثر وأكثر، ففي الشارع أشكال وألوان من الفساد، فشرطي المرور يخالف شخص ويترك اخر فهو صديق له، والتاجر يغش بمكياله، والصانع يلعب بمعايير مواده، وإذا ما وصلت للشركات والدوائر الحكومية والخاصة ترى فنوناً رائدة في الفساد... فالفساد يدمر جهود التنمية ويزيد الفقراء فقراً والأثرياء ثراءاً وتنعدم العدالة الاجتماعية، فلا عدالة مع الفساد، بل ولا تنمية في ظل الفساد.
وجاءت رسُل الله عليهم الصلاة والسلام آمرة بالإصلاح والنهي عن الفساد، فتبدأ قصة الصلاح والفساد من قبل خلق ابونا آدم عليه السلام، حيث تخوفت الملائكة من وجوده في الأرض لأنها صالحة سليمة نقية، وقد يأتي إليها هذا المخلوق فيفسد فيها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:30] وقال تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام ينادي في قومه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ [الشعراء:150 - 152]. وقال تعالى أيضا ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 74]. وقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام يهتف بالنداء نفسه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [العنكبوت:36]، وقال تعالى فأوفوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ [هود: 85]، وقال تعالى على لسان موسي عليه السلام ينادي في بني إسرائيل: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة:60]؛ وها هو يقدم النصيحة الغالية لأخيه: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف:142]. وها هم الصالحون من قوم سيدنا يحذرون قارون من مغبة الفساد: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص:77].
وكان الفساد لا سيما المالي منه أول المظاهر السلبية التي عالجها الإسلام منذ بداياته، فشن حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال والاستعباد وتطفيف الميزان والغش والاحتكار والسرقة والرشوة والربا والاغتصاب، ومن ثم التعدي على المال العام وغير ذلك، واستمر في محاربة الفساد بكل أشكاله وألوانه، وقد وضع التشريعات القانونية التي تمنع كل مظاهر الفساد المالي، فحرم السرقة، فقال تعالى:" السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا" سورة المائدة اية 38، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة".
والمسيحية وقفت ضد الفساد وحاربته بكافة أشكاله، فجاء في الوصايا العشر حسب الدين المسيحي التي انزلها الله على النبي موسى "لا تسرق"، وفي كتُب العهد الجديد نجد موضوع الفساد حاضراً. فيوحنا المعمدان الذي كان يعلن، بحسب نبوءة أشعيا، اقتراب ملكوت السماوات وقدوم المسيح، كان يعظ بالتوبة كل من يأتي إليه لينال المعمودية.. وها هو يجيب جباة الضرائب الذين «قالوا له: يا معلِّم، ماذا نعمل؟ فقال لهم: لا تجمعوا من الضرائب أكثر ممَّا فرض لكم» (لو 3/13). وفي الاتجاه نفسه يقول للجنود: «لا تظلموا أحداً ولا تشوا بأحد، واقنعوا بأجوركم» (لو 3/14). وفي الحالتين يمكن إجمال تعليم يوحنا لهؤلاء الموظفين بأن يتجنبوا الفساد وأن يبقوا في حدود ما تتطلبه منهم واجبات وظائفهم: الواجب كل الواجب ولا شيء أكثر من الواجب. وتوبتهم بهذا المعنى تصير قائمة في تحقيق الأمانة لواجباتهم... كذلك تشهد رواية "سمعان الساحر" الذي حاول أن يعرض مالاً على الرسولين بطرس ويوحنا لكي يحظى بموهبة استدعاء الروح القدس بوضع الأيدي (رسل 8/8-24)، على النموذج الأول لإحدى أكثر ممارسات الفساد التي ستعاني منها الكنيسة عبر العصور (السيمونيَّة)، والتي لم تفتأ تهدِّد نقاوة حياة الجماعة المسيحيَّة ومصداقيَّة شهادتها للإنجيل. هنا أيضاً يُعلن بطرس بعنف بارز حكماً قاطعاً يتجاوز القاعدة الأخلاقيَّة، لأنَّ الأمر يمسُّ قيمة المواهب الإلهية ذاتها: «إلى جهنَّم أنتَّ ومالك، لأنَّك ظننتَ أنَّك بالمال تحصل على هبة الله!».
فالفساد: مصطلح يشير، بشكل عام، إلى حالات انتهاك مبدأ النزاهة وقيمها ومعاييرها، ويعرف الفساد السياسي، وهو أحد مظاهر الفساد أو أحد مجالات الفساد العديدة، بأنه استخدام لسلطات مشروعة من قبل مسؤولين حكوميين لغرض تحقيق مكاسب خاصة غير مشروعة، كذلك سوء استخدام سلطات الحكومة لتحقيق أغراض أخرى تصب في المصالح الشخصية، وليس هناك تعريف محدد للفساد بالمعنى الذي يستخدم فيه هذا المصطلح في الوقت الحالي، لكن هناك ثمة اتجاهات متعددة تتفق في كون الفساد «إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص»، ولكن هذا فقط أحد مظاهر أو مجالات الفساد . وإذا انتشر الفساد كما هو الحال الآن في بعض المجتمعات التي ابتعدت عن حظيرة الدين وعن مظلة الإيمان كان ذلك من صنع الناس ومن أيديهم كما في قوله عز وجل: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} (الروم: 41)، فالفساد يكون من صنع البشر ومن أعمال الناس.
إنّ استفحال الفساد والإفساد في العالم يؤدّي إلى مساوئ وآثار سلبية كبيرة ومتنوعة: آثار دينية: فإنّ الفساد سبب في نزول العذاب وحلول النِّقم من الله تعالى. وآثار اجتماعية: يزرع الفساد بذور التفرقة والعداوة والبغضاء بين النّاس ويحطّم كيان الأسر، وتتفاقم المشكلات الأسرية، وفيه إهدار لكرامة وعرض الفرد، ويهدّد النّوع البشري. وأمّا الآثار النّفسية والصّحية، فالمُفسد فاقد للأمن النّفسي والاستقرار العقلي، حيث يسيطر القلق والاضطراب عليه. وبخصوص الآثار الاقتصادية، فتترتّب عليه مضار كثيرة ويؤدّي إلى إهدار المال العام، ويعود على الدولة بالخسارة المالية، ويقف دون التقدّم الاقتصادي والرّقي الحضاري للمجتمع. وأمّا آثاره السّياسية، فيعدّ الفساد عدوّ التّنمية، فهو من أسباب فشل خطة التّنمية في الدول النامية، وهو مشجّع على كلّ مظاهر الفوضى والخروج على النّظام العام.
وللقضاء على الفساد يجب على أفراد المجتمع محاربة الفساد بشتى صورة وأشكاله والتعاون في ذلك ويتحتم علينا التزامنا الديني والاخلاقي والوطني والانساني أن نساهم جميعاً في الحد من ظاهرة الفساد التي تهدد المجتمع والتي توسعت بشكل غير مسبوق وأضرت المجتمع وروح المواطنة لدى أبنائه.
والفساد تكثر صوره وتختلف أساليبه، فمنه الرشوة، الابتزاز، المحسوبية، المحاباة، الوساطة، الاختلاس، الأعمال الاجرامية، غسيل الأموال، تهريب الأموال، التهرب من الضرائب، الاتجار بالبشر، سرقة الاثار، تعاطي المخدرات، التزوير، والتزييف... وجميع ما ذكر يضر بالفرد أولاً، والأسرة ثانياً، والمجتع ثالثاً، يؤدي الى الحقد والضغينة، وتفاقم الكراهية، ويتنامى الظلم ما ينتج عنه مجتمع مفكك غير اّمن، فتتزايد حالات الإفقار وتراجع العدالة الاجتماعية وانعدام ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى المعيشي لطبقات كثيرة في المجتمع نتيجة تركز الثروات والسلطات في أيدي فئة الأقلية التي تملك المال والسلطة على حساب فئة الأكثرية وهم عامة الشعب.
ولتقوية الوازع الديني لدى المجتمع، لابد من انتهاج بعض الطرائق والأساليب التي من شأنها إيقاظ نفوس المجتمع نحو مفهوم الفساد لمعرفته ومن ثم اجتنابه، ومن أهمها تفعيل دور التعليم الذي يأتي في المقام الأول ولا يمكن أن يعفى من مسؤوليته المهمة الملقاة على عاتقه وهي توعية الطلاب والطالبات وتثقيفهم من خلال إدراج مواضيع واضحة وجلية في مناهج التعليم العام والجامعي تعنى ببيان صور الفساد وأضراره وموقف الدين منها، فيها الحثّ على الإيمان، والأمانة، والصدق، والإخلاص، ولابد من تحديثها وتطويرها باستمرار لتناسب مختلف الأعمار والمراحل الدراسية.
ومن هنا أتوجه بدعوة الأسر والمدارس والتي تعتبر اللبنات الأولى في التربية والتنشأة إلى تربية الأبناء والأطفال على قيم النزاهة والعدل والمساواة، وأثر الفساد على خراب وتأخر المجتمع، والعمل على تحصينهم من اّفة الفساد، كما وأتوجه بدعوتي إلى كافة شرائح المجتمع من الطالب للمدرس أو المزارع او العامل وصولاً لكافة المسؤولين من مدراء ووزراء إلى توخي معايير النزاهة والوطنية المتمثلة بالنزاهة والشفافية والمساءلة والحاكمية الرشيدة. حيث إن مكافحة الفساد مهمة إنسانية أخلاقية دينية شرعية على الجميع المشاركة فيها، وذلك من خلال:
1- التربية الدينية الصحيحة في البيت والمدرسة والجامعة: عن طريق غرس أصول الدين منذ الصغر، فهذه هي القاعدة الأساسية لمحاربة كافة أنواع الفساد والإفساد، فغياب الوازع الديني هو الأصل في الوقوع بالمفاسد والمحرمات.
2- التحلي بالقيم والأخلاق الحميدة التي تجعل الفرد بناءا في مجتمعه.
3- العبادة الواعية وليست المغالية والسير على القيم الإيمانية السمحاء كمحصنات ضد الفساد المجتمعي.
4- تحسين الظروف المعاشية لأفراد المجتمع.
5- التوعية المجتمعية لهذه الظاهرة الخطيرة وتداعياتها وتأثيرها على المجتمع واخلاقياتهم.
6- وضع نظام حماية ومكافأة لمن يقوم بالتبليغ عن حالات الفساد.
7- وضع الشخص المناسب في المكان المناسب بالاعتماد على الكفاءة والابداع العلمي.
وإن عمليات التغيير التي توجّه الشؤون الإنسانية الآن تنذر بمرحلة انتقالية لا مفر منها لقيام مجتمع عالمي. ويتمثل التحدي الرئيس المتأصل في هذه المرحلة الانتقالية في تهيئة ظروف من المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الدول التي تشكّل مجتمعنا العالمي وداخلها. إن رفع عبء الفقر من العالم يتطلب التزاماً عميقاً بالمبادئ الخلقية وإعادة ترتيب الأولويات بشكل جذري. ولكن ربما كان الأهم من ذلك، أن المعايير المادية التي تقود التفكير في التنمية يجب أن تفسح المجال أمام إطار جديد من المفاهيم يعترف صراحة بالقوى الروحانية والثقافية والاجتماعية التي تحدد هوية الفرد والمجتمع.
*الدين والتنمية المستدامة:
قد عُرفت التنمية المستدامة بأنها: "الأعمال التي تهدف إلى استثمار الموارد البيئية بالقدر الذي يحقق التنمية، ويحد من التلوث، ويصون الموارد الطبيعية ويطوِّرها، بدلاً من استنـزافها ومحاولة السيطرة عليها. وهي تنمية تراعي حق الأجيال القادمة في الثروات الطبيعية للمجال الحيوي لكوكب الأرض، كما أنها تضع الاحتياجات الأساسية للإنسان في المقام الأول، فأولوياتها هي تلبية احتياجات المرء من الغذاء والمسكن والملبس وحق العمل والتعليم والحصول على الخدمات الصحية وكل ما يتصل بتحسين نوعية حياته المادية والاجتماعية. وبما يضمن حقوق الأجيال المقبلة في الموارد البيئية. وتتمثل أهداف التنمية المستدامة في تحسين ظروف المعيشة لجميع سكان العالم، وتوفير أسباب الرفاهية والصحة والاستقرار لكل فرد. بحيث تقوم التنمية المستدامة على ثلاثة عناصر أساسية هي: الاقتصاد والمجتمع والبيئة، وهي عناصر مرتبطة ببعضها في نسيج متشابك، إذ يقوم كل منها على الآخر ويكمله، ولا مناص من ضرورة تحقيق التوافق والانسجام بينها لإنجاح عملية التنمية، وعلى الرغم من حداثة مصطلح (التنمية المستدامة) فإن مفهومه ليس بجديد على الإسلام والمسلمين. فقد حفل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بالعديد من النصوص التي تمثل الركائز الأساسية للتنمية المستدامة، وتضع الضوابط التي تحكم علاقة الإنسان بالبيئة – بل وبالأرض والكون كله - من أجل ضمان اسـتمراريتها صالحة للحياة إلى أن يأتي أمر الله.
ومن الجدير بالذكر أن مفهوم التنمية المستدامة في الإسلام أكثر شمولاً، فالنظرة الإسلامية الشاملة للتنمية المستدامة توجب ألا تتم هذه التنمية بمعزل عن الضوابط الدينية والأخلاقية، وفي الوقت نفسه فإن هذه النظرة تعنى بالنواحي المادية، جنباً إلى جنب مع النواحي الروحية والخلقية، فلا تقتصر التنمية المستدامة على الأنشطة المرتبطة بالحياة الدنيا وحدها، وإنما تمتد إلى الحياة الآخرة، بشكل يضمن تحقيق التوافق بين الحياتين، ويجعل صلاحية الأولى جسر عبور إلى النعيم في الحياة الآخرة.
وغايات التنمية في المنظور الإسلامي تتجه نحو تحقيق العبادة لله وحده، بتعمير الأرض بمنهجه وتحقيق الحياة الطيبة للبشر في الدنيا من خلال حفظ المقاصد الخمسة – الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وتعلمت قطاعات كبيرة من البشرية، عن طريق تعاليم الدين وهدايته الخلقية، أن تضبط نزعاتها وأهوائها الدنيا وتنمّي صفات تؤدي إلى النظام الاجتماعي والتقدم الثقافي. فصفات مثل الشفقة، الصبر والتحمل، الأمانة، الكرم، التواضع، الشجاعة والرغبة في التضحية في سبيل الصالح العام تشكل الأسس غير المرئية، ولكن الضرورية، لحياة اجتماعية متقدّمة. إن معرفة الطبيعة الروحية للإنسان وتهذيبها قد سمت بحياة الناس وأغنتها في كل مكان، وولّدت تلاحماً ووحدة في الهدف داخل المجتمعات وفيما بينها. فالحضارة الحقة لا تتوطد على أسس التقدم المادي فقط بل على القيم السامية التي تحدد هويتها وتعمل على ترابط المجتمع. فالدين من الناحية الواقعية الملموسة يؤمن الطوب والملاط لبناء المجتمع - أي العقائد المشتركة والقيم الأخلاقية التي توحّد الناس في مجتمعات محلية، وتعطي توجيهاً ومعنىً حقيقياً لحياة الفرد والجماعة. وإن تقدم الفرد وتنمية المجتمع يتطلبان توفّر الوعي الروحي والموارد المادية. لذلك فالترقي المادي يجب أن يفهم بالأسلوب الأفضل وهو ألا يعتبر هدفاً بحد ذاته بل أداة للتقدم الاجتماعي والروحي والأخلاقي. فالتغيير الاجتماعي الهادف لا ينشأ نتيجة اكتساب المهارات التقنية بقدر ما يعتمد على تطوير صفات ومواقف سلوكية تعزز الأنماط التعاونية والمبتكرة للتفاعلات الإنسانية. وباختصار، فإن الجانبين المادي والروحاني للحياة اليومية متلازمان ويجب أن يُعنى بكليهما. يبشر هذا الفهم الجديد للتطوير بظهور مجتمعات يعزز فيها تطبيقُ القيم الروحانية، كالعدالة والأمانة والشفقة، الرفاهَ المادي. وفي الوقت نفسه فإن الموارد المادية والتقدم المادّي سيجعلان من الممكن إيجاد سبل جديدة للجهود الروحية التي ستدعم تطوير القدرات الفردية والصالح العام.