بعيدا عن السياسة وبعيدا عن المفاوضات . تربطني بالدكتور صائب عريقات علاقة شخصية راقية وعلاقة عائلية طيبة .ومنذ سنوات نجتمع أنا وصائب وأحمد الطيبي في جروب واتس أب اسمه " أريحا " . ولا يوجد غيرنا نحن الثلاثة على هذا الجروب .. فهو للأصدقاء الثلاثة فقط .
وفي هذا المقال أنقل للقراء بعضا مما جاء في مكالمته الأخيرة معي وهو على فراش المرض:
يوم الخميس ليلا ، وبينما نشرات الأخبار تتناوب على متابعة الحالة الطبية لامين سر اللجنة التنفيذية . رن الهاتف وإذا بصوته خافت وضعيف وقال ( ألو ناصر هل تسمعني ؟ هل يسمعنا الطيبي لقد اتصلت عليه لينضم إلى مكالمتنا هذه ) .
تلقفته بالترحاب والتشجيع لأرفع معنوياته . وفي الدقائق الأولى للمكالمة التي استمرت نصف ساعة تقريبا لاحظت أن صديقنا المشترك د احمد الطيبي لا يشارك في الحديث . ولأنه طبيب فهمت أن الوضع خطير .
سألته أن يطمئنني على صحته . ولكنه صدمني بسؤال لم أتوقعه أبدا . فقال لي : أنت قللي كيف صحتي!!!!
ولأنه حاد الذكاء كان يقصد أن أقول له ماذا سمعت عن صحته من الأطباء ومن القيادة !!
قلت له ما يلزمه لرفع معنوياته وعن اكتشاف اللقاحات وعن الشفاء العاجل . فاستمع لي بعناية وأعاد تذكيري أنه زرع الرئتين قبل سنتين وأنه فاقد للمناعة .
صرت أتلقى الأسئلة وكأنني في تحقيق من صديق . استنجدت بأحمد الطيبي فلم يخب ظني . قال ما يجب ودخل في تفاصيل أنواع الدواء الذي تناوله .
سألته ( لماذا لا تذهب إلى الأردن وتوافق على دعوة الملك عبد الله للعلاج في عمّان ؟ ) . فقال لي حرفيا : الأمريكان منعوني ، الأطباء الأميركيين الذين زرعوا لي الرئتين طلبوا مني عدم الخروج من المنزل وعدم الذهاب إلى أي مكان .
كانت مكالمة شاقة وانقبض قلبي فيها . حاولت أنا والطيبي ما استطعنا أن نتماسك ونمنحه الشعور بصداقتنا .
بعد تفاصيل كثيرة خاصة .. سألته من أين جاء اليك الفيروس وأنت كثير الحذر ؟ رد حرفيا ( لا أعرف من أدخل الفيروس علي ، لا أعرف كيف ) .
استمرت المكالمة بعبارات متقطعة وصمت كثير .. ونحن الثلاثة نعرف أنها مكالمة الوداع . لدرجة لم نجرؤ على التلفظ بعبارات الوداع . قلت سنلتقي قريبا ونتحدث بكل التفاصيل . فقال وهو يسأل الطيبي أيضا ( هل هناك شفاء لمصاب كورونا لمريض زرع رئتين ؟) .
تحوّلت المكالمة إلى عذاب و اختنق الكلام في الأعناق . وكلما انتهى الكلام عادت الأسئلة ترفرف مثل غربان سوداء .
قلت لأهرب ( هذا ترامب شفي من المرض وعاد كالجاموس ) .
أرسل لنا د صائب تحيات الأخت أم علي وتحيات ابنته الدكتورة سلام اللتان كانا تعتنيان فيه في منزله بأريحا . وانتهت المكالمة ..
بعد خروج د صائب عن الخط . ارتفع صوت د احمد الطيبي وقال ( ناصر . هل تسمعني لوحدك ) فأغلقت المكالمة الثلاثية واتصلت فيه على انفراد كي أمنع أي احتمال أن يكون صائب على الهاتف .
في الاتصال الهاتفي بيني وبين صديقي الطيبي . كنا نعلم أن هذه آخر مكالمة . وكنا نعلم أن أبو علي كان يودعنا في هذه المحادثة .
بعد ثلاثين ساعة من هذه المكالمة . تدهورت صحة صائب .. وانتهت حلول الأرض
توفي صائب عريقات في يوم وفاة الزعيم ياسر عرفات رحمهما الله .