يحمل الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن على كاهله ثقلاً كبيراً، مع ارتفاع سقف الطموحات المعلقة على رئاسته على نحو هائل، ذلك أنَّ كثيرين ينتظرون منه تعويض أربع سنوات تغيرت السياسة الخارجية خلالها عن مسارها في ظل قيادة الرئيس دونالد ترمب، بجانب تعلق آمال كبيرة بقدرته على إعادة العلاقات إلى سابق عهدها مع أوروبا، وإعادة التعاون بشكل كامل مع حلف «الناتو»، وإحياء «خطة العمل المشترك الشاملة» المرتبطة بإيران، وإعادة توجيه سياسة واشنطن إزاء الصين والتصدي بقوة في وجه روسيا.
المؤكد أنَّ هذه طلبات ضخمة من رئيس خلال فترة رئاسية واحدة؛ خصوصاً إذا كان يواجه إرثاً يزخر بالتحديات على الصعيد الداخلي التي خلفها ترمب في أعقابه، من بينها أزمة تفشي جائحة فيروس «كورونا» التي جرت إدارتها على نحو رديء، وانقسامات عميقة داخل البلاد.
ومع ذلك، من المتوقع أنْ تفرضَ قضايا السياسة الخارجية ذات الأولوية نفسها على أجندة الرئيس المنتخب، ومن المحتمل أنْ تأتيَ روسيا في مرتبة متقدمة بينها؛ خصوصاً أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيسعى بالتأكيد نحو استغلال أي انشغال من جانب الرئيس الأميركي بقضايا أخرى، من أجل الضغط لحشد مزيد من المكاسب في بيلاروسيا أو أوكرانيا أو سوريا أو ليبيا، أو أي مسرح آخر.
وبالنظر إلى أنَّ بايدن أوضح أن إدارته ستستجيب بقوة لأي مغامرات روسية، في الوقت الذي يبدي مرشحه لمنصب وزير الخارجية أنتوني بلينكن تعاطفاً مع أوكرانيا، فإنَّ السياسة الأميركية عام 2021 من المحتمل أنْ تتناول أوجه القصور في التوجه «الناعم» الذي اتبعه ترمب، علاوة على إبداء توجهات أكثر قوة من سياسة الاستيعاب التي انتهجها أوباما إزاء موسكو.
ومع هذا، يظل السؤال: كيف ستبدو هذه السياسة؟ وكيف يمكن تطويرها لتتجاوز مجرد حرب كلمات وتهديدات فارغة، في وقت تبدو فيه الولايات المتحدة عاقدة العزم على الانسحاب من الصراعات البعيدة؟
بوجه عام، من المتوقع أن تصوغ ستة مسارات من العمل السياسات الأميركية، وتحدد لأي مدى يمكن لإدارة بايدن مواجهة وكبح جماح الانتهازية الروسية. وتأتي هذه المسارات على النحو التالي:
أولاً: من المتوقع أن تصوغ الإدارة توجهاً متسقاً وقوياً إزاء روسيا، الأمر الذي ربما افتقدته الولايات المتحدة على مدار السنوات الأربع الماضية. ولا تزال روسيا تمثل واحدة من القضايا القليلة التي يمكن للكونغرس الاتفاق حولها، ذلك أنه يجري النظر إلى روسيا على نطاق واسع من جانب الحزبين الديمقراطي والجمهوري باعتبارها تشكل تهديداً للمصالح الأميركية.
ثانياً: من أجل تعزيز وزيادة فاعلية التوجه الجديد، سيتعيَّن على الولايات المتحدة استعادة شراكتها مع الاتحاد الأوروبي؛ خصوصاً فرنسا وألمانيا. ومن خلال ذلك، سيتعيَّن على واشنطن أولاً توضيح أنَّها لا تزال ملتزمة بالمشروع الأوروبي وأمن الاتحاد الأوروبي. وسيتعيَّن عليها ثانياً حشد الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي؛ بحيث تصبح قادرة على الرد بقوة أكبر على أي عدوان روسي في النطاق المجاور لها.
وسيتطلَّبُ ذلك الأمر بدوره خوض محادثات «صعبة» مع ألمانيا على وجه الخصوص، حول مزايا مشروع «نوردستريم 2» ومسألة الاعتماد في مجال الطاقة على خطوط الغاز الطبيعي الروسية.
ومن المفترض أن يمهدَ إقرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في سبتمبر (أيلول) بوجود أدلة دامغة على أنَّ أحد المعارضين البارزين للرئيس بوتين جرى تسميمه على أيدي عملاء روس باستخدام غاز أعصاب يعود إلى الحقبة السوفياتية يدعى «نوفيشوك»، الطريق أمام سياسة أقوى من قبل الاتحاد الأوروبي إزاء روسيا.
ثالثاً: من المتوقع أن تبث الإدارة الأميركية الجديدة الحياة مجدداً في حلف «الناتو»؛ خصوصاً أنه من المعروف عن بايدن تأييده لتعزيز قدرات الحلف، ليصبح قادراً على مواجهة التهديدات العسكرية التقليدية والأخرى الأمنية المختلطة الجديدة. ومن غير المحتمل أن يتراجع بايدن عن مطالبة ترمب الأعضاء الآخرين في «الناتو» بالتزام واجباتهم المالية تجاه الحلف. ومع هذا، من المتوقع أن يسهم توجهه في إعادة بث النشاط في صفوف الحلف وجعله أكثر قوة، في مواجهة التهديدات والتحديات الجديدة.
رابعاً: ستولي الولايات المتحدة اهتماماً أكبر لمسألة تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وستعمل على استغلال هذا التوجه في تعزيز دعمها الدبلوماسي والمادي لجماعات المعارضة في بيلاروسيا. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه عام 2014 اضطلع بلينكن بدور مؤثر في فرض عقوبات ضد روسيا، بسبب غزوها القرم وشرق أوكرانيا. كما دعا الولايات المتحدة إلى تسليح أوكرانيا؛ لكن دعوته لم تلقَ نجاحاً. وكوزير للخارجية، من المتوقع أن يدعو بلينكن بقوة لتوفير دعم كبير لأوكرانيا، بما في ذلك توفير إمدادات عسكرية وأسلحة فتاكة.
خامساً: ليس هناك شك في أن الإدارة الأميركية الجديدة ستلجأ إلى استخدام عقوبات جديدة للضغط على روسيا. إلا أنه بدلاً عن استهداف الأفراد، الأمر الذي أثبت عدم فاعليته في الغالب، فإنَّ الإدارة الأميركية ربما تركز على عناصر أكثر أهمية، مثل البنوك والمؤسسات المالية وقطاع الطاقة. ومن غير المحتمل بدرجة كبيرة أن تواجه مثل هذه الإجراءات معارضة من الكونغرس. في الحقيقة، سيسير بايدن هنا في طريق مفتوح بالفعل.
سادساً: في الوقت الذي سترغب فيه الحكومة الأميركية في تحديد النهج العام على مدار السنوات الأربع المقبلة، فإنَّ الأمر لن يتعلق فحسب باستخدام العصا، وإنما بطرح جزر أيضاً. والمؤكد أنَّ قضية السيطرة على الأسلحة ستكون مطروحة على طاولة بايدن، بمجرد دخوله البيت الأبيض؛ خصوصاً أنَّ اتفاق «ستارت الجديد» ينتهي سريانه مطلع فبراير (شباط)، وتنتهي معه أي قيود متبقية على الأسلحة النووية الاستراتيجية.
وعليه، سيرغب بايدن في التفاوض بخصوص تمديد مؤقت للاتفاق، وسيصوغ هذا فكره خلال المرحلة الأولى من رئاسته تجاه كيفية التعامل مع موسكو خلال رئاسته. ولذلك، فإنَّه ربما يرغب في استكشاف الإمكانات للتعاون معها حول قضايا أخرى، مثل التغييرات المناخية، والتعافي من جائحة فيروس «كوفيد - 19» والتصدي للإرهاب والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط والقضايا النووية الإيرانية. ومع هذا، يجب أن يكون بوتين واثقاً بأن بايدن سيبقى ممسكاً بقوة بالعصا في يديه.
* زميل مشارك في المعهد الملكي للشؤون الدولية بلندن (تشاتام هاوس)، والمدير التنفيذي لشركة أزور للاستشارات الاستراتيجية
"الشرق الأوسط"