لا أدعي أني خبير في الشأن الإسرائيلي، أقولها لأني لا أتقن اللغة العبرية، ولكن بحكم أني فلسطيني في وسط الصراع، وبحكم طبيعة عملي كإعلامي متابع باستمرار لما يجري من تطورات في إسرائيل. قبل أيام حلت الكنيست نفسها، وبذلك تذهب إسرائيل إلى الانتخابات للمرة الرابعة خلال عامين. هذا الحدث بحد ذاته يقود باستمرار إلى النظر للخارطة السياسية وتوزع الأحزاب والتكتلات عليها، ولمن يتابع هذه الخارطة منذ عقود، سيلاحظ بكل بساطة أن هذه الخارطة قد ضاقت لتنحصر بين يمين الوسط، واليمين، واليمين المتطرف، والأحزاب الدينية، وبعد اختفاء حزب العمل عن هذه الخارطة، فلم يبق من اليسار الصهيوني سوى حركة ميريتس التي تمثل ما نسبته 2% من المجتمع الإسرائيلي.
في السابق، وحتى مطلع الألفية الحالية، كانت الخارطة السياسية في إسرائيل تمتد من اقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وكان لا يزال هناك بعدا اجتماعيا واقتصاديا في التنافس إلى جانب السياسي والأيديولوجي. ومنذ أن خسر حزب العمل انتخابات شباط /فبراير 2001 واليسار العمالي الصهيوني، الذي أسس إسرائيل. ووضعها على خارطة المنطقة، وهو في تراجع إلى أن اختفى تماما.
اليوم نحن أمام خارطة يغيب عنها اليسار، ووسط اليسار، وحتى الوسط، كما أننا إما أحزاب وتكتلات لا برامج اجتماعية اقتصادية لها، حتى حزب الليكود لم يعد هو ذات الحزب الذي كان يتصارع فيه تياران الوسط واليمين. كما لا يمكن اليوم إعطاء التعريفات ذاتها لما هو الوسط في ظل غياب اليسار، بمعنى أن التصنيفات القديمة لفهم الخارطة السياسية في إسرائيل لم تعد تصلح.
ولتقريب الفكرة، فإنه لو قدر لمؤسس إسرائيل "ديفيد بن غوريون "أو حتى زعيم اليمين التقليدي "مناحم بيغن" لو قدر لهما أن يعودا للحياة لقالا إن هذه ليست إسرائيل التي نعرفها، لذلك علينا أن ندرك أن النظرة الفلسطينية القديمة لإسرائيل لم تعد قادرة على على فهم الواقع الإسرائيلي الجديد، من هنا نحن بحاجة لقراءة مختلفة لإسرائيل وخارطتها السياسية.
صحيح أن الجوهر الصهيوني هو ذاته، وبالتالي ملامح إسرائيل القديمة لا تزال موجودة، إلا أن هذه الدولة لم تعد تفكر أو تدار شؤونها بالطريقة التي كان يفكر ويدير فيها المؤسسين، فاليوم لا وجود لذلك الدمج بين بين الصهيونية والاشتراكية، أو بين الصهيونية وبعدها الاجتماعي الاقتصادي، فصهيونية إسرائيل اليوم هي ليبرالية متوحشة في السياسة، كما في الاقتصاد، لذلك لم يعد لليسار وجود. ولكي لا نحصر هذا التطور في إسرائيل فإن العالم، وبالتحديد الدول الرأسمالية الكبرى قد تغيرت فيها الخارطة السياسية، وغابت عنها عمليا الأحزاب اليسارية ذات التوجه الاشتراكي، فهذا ما نلمسه في فرنسا وفي المانيا وإيطاليا، ولكن الفرق بين ما جرى في هذه الدول وإسرائيل، أن هذه الأخيرة قد باتت في قبضة اليمين الفاشي والعنصري.
في مثل الخارطة السياسية الحالية في إسرائيل يلتقي الفساد والتعصب والعنصرية والذي لا يزال يأخذ شرعيته من سياسة التوسع والاحتلال من جهة، وفرض هيمنته الأمنية في المنطقة من جهة ثانية. وفي سياق ذلك أصبح التنافس بين السياسين في إسرائيل هو على إنجاز صفقات استثمارية مع الدول التي طبعت مع إسرائيل مؤخرا وعلى امتداد العالم.
في ظل هذا التطور، فإنه من الطبيعي أن يغيب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عن أجندة أحزاب هذه الخارطة، إلا من زاوية التوسع والاستيطان والضم والتهويد، ليس بسبب غياب التاثير الفلسطيني على الداخل الإسرائيلي، وإنما لأننا اليوم أمام نسخة جديدة من إسرائيل، ليست هي تلك التي عرفنها في القرن العشرين، صحيح أنها هي دولة احتلال، دولة عدوان عنصرية لكنها لم تعد هي هي من الداخل.
"الحياة الجديدة"