متابعات: يدمج الشاعر الفلسطيني عامر بدران بين نمط الحياة في الماضي، وأفكار الإنسان الحداثية، في ظل الثورة الرقمية، مقدما عرضا شعريا جدليا حول العديد من العادات السائدة، والأنماط الثابتة، وكذلك علاقة الإنسان بغيره، وبالطبيعة، في مجموعته الشعرية ”منسي على الرف“ الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية 2021.
بنصوصه، يحاول بدران نقد المفهوم السائد حول العلاقات بين الأفكار، والتفاعلات بين الأشياء، في نية منه لكسر النمط المتوارث من الجد والجدة، وتغيير المكان الذي من خلاله نرى الشيء ذاته في كل مرة. ويعتلي الشاعر من خلال قصائده منصة شعرية متجددة، مقدما لغة سهلة محملة بقصص التراث الديني والمجتمعي مثل قصة الغراب، وحزن مالك، ومثل القرش الأبيض واليوم الأسود، وقبيلة قريش. هذا المسح التاريخي لقصيدة بدران زاد من ترسيخ المعنى، ويوسع مساحة وصوله، إذ يربط بين عتبتي الزمنين، الماضي والحاضر.
دلالات
ويأتي بدران بمداخل أنطولوجية متجددة في ابتكار فكرته الشعرية، كأن يصنع المرأة من البخار، ليمنع عنها عوامل تفعيلها، ونفيها في حالتها الطينية: ”امرأة يصنعها نَفَسي/أنفخها فوق زجاج المرآة/لأشطب صورتي البلهاء/وأخفي نفسي“.
ومرة أخرى يحدد لذاته طريقة أخرى في التصنيع، حينما يلمح إلى أنه من بقايا تصنيع جسد حبيبته، كما ورد في نص ”منسي على الرف“، ولربما في هذا العنوان دلالة شعرية أكثر شمولية حول المادة الخام للشاعر، الذي يتشكل بالطريقة ذاتها، من بقايا صور الأشياء، ويبقى دوما يقدم الهوامش للناس، على أنها مركز، ويحل هو محلها، هامشا، منسيا على الرف.
ودوما يبحث بدران بمنقلة الشعر عن زاوية أخرى، ليقرأ منها الحدث، ويقدم رؤياه حول المشهد، كأن المشهد لم يحدث من قبل، ولم تلمسه المعرفة الإنسانية، ليقدم بعدا مغايرا، حول الفكرة، وميكانيزم حدوث الشيء:“دمعي ذوبان من كتفيّ/ ونزف من جرح طوليٍ/ خلفّه إظفر عاشقة في بطني الميت“.
تقليد
فيما ينقل الشاعر عجز الإنسان عن إعادة إنتاج ما تنتجه الطبيعة، مهما تكررت المحاولات، فإن مصير ذلك الفشل. ولأن الإنسان يلاحق رغبته دوما، فطريقته مهما كانت متقنة، ففيها جانب من التسرع، لكن الطبيعة عكس ذلك على حد رأي لاو تزو:“الطبيعة لا تستعجل، ولكن كل شيء يتم“.
وتظهر أدواته الفنية في صناعة لوحة بلغته الشعرية، من خلال تفصيلات تعريفية بأدوات المرسم، والحالة الشعورية المسيطرة، ووصف فكرة الليل، وكيف أن الطبيعة تعي ما تفعل، مسلطا تركيزه على إيقاع الليل وحده، ومتفقا مع آندي وارهول، إذ يقول:“الليل هو حقا أفضل فن“.
عن ذلك يكتب بدران في قصيدة“هواية":
”أرسم الليل
ما أسهل الليل للرسم،
متر قماش،
وفرشاة ذيل حصان،
وعتمة لون، وصمت.
..
ما أسهل الليل للرسم،
نقطة ضوء على طرف متر قماش، فوق،
فلا بد من قمر صالح للعواء..
ونقطة ضوء مفتتة في الزوايا،
فلا بد من كوكبين لأقرأ حظي،
ولا بد من نجمة لأدل الطريق،
وأخرج من لوحتي سالما،
بعدما خدعتني الضباع ونمتْ.
أرسم الليل.
ما أسهل الليل للرسم!
لو أنني لا أرى ما رسمت“.
الكلاسيكي والحداثي
ويتكلل لبدران النجاح في إخراج الصورة العاطفية من الكلاسيكية إلى الحداثية، بتجريب اكسسوارات قصيدة ما بعد الحداثة، بما تشتمله من تكثيف للفكرة، وتبسيط لغة ومحتوى الموضوع، محافظا بذلك على موسيقى النص الباطنية، ومازجا بين الحاسي والتجسيدي، بإيقاع وبعد صوتي متقن. يكتب الشاعر في قصيدة ”محاولة:
رجل أبسط من مدخل بيت،
تسكنه الأشباح.
رجل يكتب شعرًا،
عن فرق منسي لا يذكر،
كنت أحاول إغواءك لا أكثر.
فأنا لا أملك بيتًا،
لا أملك أشجارًا،
لا أملك حتى مكنسة،
ونصوصي لا تشبه شوقي،
هي ورق يصفرّ، ويسقط فوقي“.
غراب
وعلى نفس طريقة اجتثاث الفكرة من جذرها، يعطي بدران للحزن بعدا تاريخيا أكثر من كونه فكرة او إحساسا يسيطر على المرء في زمن ما، حينما يعيده إلى لحظة فارقة في رحلة هذا العالم، فلطالما كانت الطبيعة بمكوناتها، ركيزة في إكساب الإنسان المعرفة، وصقل وعيه.
في نص ”صديقي الغراب“ يكتب بدران:
صديقي الغراب
يعلمني كيف أدفن حزني،
أحط على سبخة،
أتململ، أحفر،
أذرف دمعي، هنا،
وأهيل التراب.
..
صديقي الغراب،
يعلمني الآن، كيف أطير؛
تذكر حنينكَ للريح
قل: هذه الريح بيتي، وأسفلت عمري.
تخيل جبالا تسافر تحتك،
غابة سرو تصفر تحتك،
ساقية تشتهيك، وشمسًا تناديك.
نجما
رمى لك صنارة الحب، ليلًا، وغاب
..
صديقي الغراب
يرفرف فوقي،
ويتركني جثة للكلاب“.
حيرة أخيرة
يا أجدادي الفقراء!
كم كان جميلًا أن أسمع حكمتكم؛
فلقد خبأت القرش الأبيض
لليوم الأسود.
لكن،
ماذا أفعل مع باقي الأيام
السوداء؟
ومن نصوص المجموعة ايضا كم صرت غنياً
”كم صرت غنيا،
أنا البحار السابق.
أملك الآن
حطام سفينة في الأعماق،
وقاموسا كاملا لشتائم البحر.
أملك قبضتين من رمل الشاطئ،
وطريقة ذكية في العوة إليه.
كم صرت غنيا،
عندما انتصر الغموض على الخيال“.
يذكر أنه، للشاعر خمسة إصدارات شعرية من قبل، ألا وهي:“ولم أر بدرًا“ 1998، ومجموعة ”هم بكرا لبكرا“2002، وهي عبارة عن شعر محكي، ومجموعة ”حين أتى“2006، ومجموعة“ظلي وحيدًا“2011، ومجموعة ”فوق عنق الغزال“ 2014.