لطالما ركز الفلاسفة والمفكرون وعلماء الاجتماع على الأثر الذي تفرضه البيئة على مزاج الأفراد وطريقة تفكيرهم واللاوعي الجمعي.
وربط مؤسس علم الاجتماع، ابن خلدون، في مقدمته، بين المناخ وأخلاق البشر وطباعهم وأمزجتهم. وقدم الباحث مونتسيكيو، في كتابه ”روح القوانين“، ربطا دقيقا بين الأعراف والأخلاق والقوانين من جهة، وطبيعة المناخ والتضاريس والدين من جهة أخرى، إذ يقول إن ”المناخ له تأثير مادي مباشر على الأعصاب والعضلات ومن ثم على تصرفات الناس وأخلاقهم العامة“.
ومن هذا المنطلق، أولت أعمال سينمائية تأثير المناخ اهتماما ملحوظا، وأحدثها فيلم الجريمة والغموض الأسترالي ”الجفاف/The Dry“ الصادر مطلع يناير 2021، والذي حقق إيرادات بعشرات الملايين من الدولارات في شبابيك التذاكر، مقدما تصورا فنيا متقنا عن كم الجهل والتخلف الذي يشوب المجتمعات الفقيرة والبيئات النائية، فضلا عن موروث العار وتجاهل قوة القانون.
وجاء تركيز المخرج منذ اللحظات الأولى للعمل، على البيئة المُؤطِّرة والجفاف المفرط والغبار الشديد والمشاهد الطبيعية القاسية، دالا على سعة اطلاعه وثقافته، مهيئا الجمهور لقصة قاسية، أبطالها يعانون من تأثير المحيط البيئي، الذي صبغ أمزجتهم بعوامل الكسل والميل للقسوة وعدم التأثر بالعقاب أو إيلاء القانون شديد اهتمام.
والفيلم مقتبس عن رواية للكاتبة الأسترالية جين هاربر، تحمل العنوان ذاته، وحصلت على جائزة أفضل رواية جريمة وغموض في العام 2016.
وتدور أحداث العمل حول آرون، العميل الفيدرالي الذي يعود إلى مسقط رأسه عقب اغتراب امتد لعشرات الأعوام، ليؤدي واجبا أخلاقيا ويحضر جنازة صديق طفولته الذي يُشاع أنه قتل زوجته وطفله قبل أن ينتحر.
وتبدأ أولى لقطات الفيلم بتجمع كبير من الناس وأردية يغلب عليها السواد، وملامح حزينة، ووجوه عابسة، تتضافر مجتمعة لتخدم الموضوع الجنائزي والصلاة من أجل أرواح الضحايا.
ونشهد في العمل عمق صدمة والدَي الجاني، واستهجانهم الشديد لسلوك ولدهم الإجرامي وقتله لعائلته التي يحبها، بطريقة مَرَضِيَّة بعيدة كل البعد عن تفكيره ونمط شخصيته، جازمين أن وراء غموض القضية مؤامرة محبكة بإتقان، أو لوثة في الدماغ سببها المناخ القاسي والجفاف والغبار والشمس الحارقة.
ولا يغفل المخرج التركيز على الآثار الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالمناطق النائية، وتبعاتها النفسية على الأفراد، الذين يعانون من التهميش والنظرة الدونية، ليغرق الوالدان المحبان في مشاعر اللوم القاسية والأحكام المسبقة النمطية، ويأكل روحيهما الإحساس بالعار وينتهكهما، فهما في المحصلة عائلة القاتل في نظر مجتمع لا يرحم، وليسا مجرد ضحايا للظروف والبيئة الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية.
ويجتمع والدا الجاني مع العميل آرون ليطلبا منه بإلحاح تسلم القضية، وإزالة ما يعتريها من لبس، وخلال بحثه الجنائي، تقوده الأدلة إلى جريمة قديمة عن مصرع المراهقة إيلي، وطريقة موتها الغريبة خلال رحلة ترفيهية إلى النهر بصحبة أصدقائها.
وصور المخرج انعكاس تدهور المناخ وتأثير الكارثة البيئية والجفاف على المجتمع الصغير، ونشوب الحرائق وشدة الغبار وعدم سقوط الأمطار منذ أمد طويل، ليقف آرون بأسلوب مسرحي يشوبه الانفعال الداخلي، أمام نهر جاف، ويعود بالذاكرة ربع قرن إلى الوراء، وهو يسبح في النهر قبل خلوه من الحياة.
ويتضح مع تتالي الأحداث أن الفتاة التي غرقت في النهر كانت محبوبة آرون التي فقد أثرها أثناء انهماكه في السباحة، ليستحضر مشهد عودته إلى المنزل وحيدا بعدما بحث عن محبوبته دون جدوى. وتتقاطع الأدلة كاشفة ارتباطا غامضا بين جرائم الأمس واليوم، بأسلوب بوليسي مشوق.
"إرم"