وكالات: يترك الشاعر والناقد الفلسطيني عز الدين مناصرة، إرثا أدبيا رفيعا، برحيله فجر اليوم، عن عمر ناهز 74عاما، حيث عمل على تطوير بنية الشعر العربي على مدار عقود، خاصة فن الإبيجراما الشعرية، كما أصدر عشرات الكتب الشعرية والنقدية، التي تثري المكتبات العربية.
وتعد قصائد مناصرة من أولى القصائد التي حملت الإبيجراما الشعرية، وهي نمطية مأخوذة من الأدب اليوناني القديم، وتمثلت سابقا بكتابات مكتوبة على الأواني والأحجار وشواهد القبور، إلى أن تم نقلها إلى الشعر الغربي.
واعتمدت قصائد مناصرة منذ بداياته، على التكثيف والإيجاز، واللسعة الإدراكية، والعمل على المعنى الإيحائي للنص، وكذلك امتلاك الصورة الخلاقة، محققة أسس وصفات الإبيجرامية الشعرية، وهذه القصيدة المختصرة، تحمل في كأسها حكمة أو هجاءً، أو نقدا لاذعا، بحيث تصنع مفارقة فنية داخل جدران النص.
ويعد مناصرة من رواد هذا الفن الشعري عربيا، فكان أول من وضع مقاربة للنصوص العربية، للإبيجراما الغربية، في ستينيات القرن الماضي، التي تفوق فيها ”جون دن“ و“أوسكار وايلد“ و“ جورج برناند شو“. وكان عميد الأدب العربي طه حسين، أول من استخدم الإبيجراما في النثر في عام 1944.
التفاف
وتميزت البنية الفنية في نصوص مناصرة بالتفاف العناصر حول بعضها، كوصف لشدة التكثيف والاختصار بغاية التركيز المشدد على المعنى اللحظي، مع الأخذ بشمولية الفكرة.
حيث يكتب الشاعر:
”الأغاني التي عذّبتْني هناكْ
عذّبتني هنا
النساءُ الجميلاتُ … والأوفُ، والميجنا
وابتهاجي دماً واخضراراً وبحراً،
يصبُّ غِوىً في هواكْ.
الأغاني،
وما بَعْدَ هومير،
صوتي أنا“.
صراع بين معنى وآخر
كما وعملت قصيدة مناصرة على صنع مفارقة درامية دلالية، باتباع الغمز والتهكم والدعابة في نصه، من خلال صراع بين معنى وآخر، وكأن لغته تلبس قناعا، تظهر بعض المعنى، وتخفي الآخر، تاركة الباب مفتوحا عند المتلقي للتوقع، إذ يكون المعنى المقصود معاكسا تماما للصيغة التي كتبت عليها الكلمات.
يقول مناصرة كمحاكاة لهذا:
”رجعت من المنفي،
في كفي خف حنين،
وحين رجعت إلى المنفى الثاني،
سرقوا مني الخفين“.
وفي جانب الإسقاط الضوئي للمعنى هنا، يوثق الشاعر الراحل رحلة شقاء الإنسان الفلسطيني مع المنفى، حيث قام الاحتلال بتجريف الأرض الفلسطينية، وتهجير سكانها، فكان الشاعر يتنقل من منفى إلى منفى، ووصفت هذه المفارقة مأساته، الممتدة لكافة الشعب الفلسطيني، طيلة أكثر من 70عاما.
أنسنة الأرض
كما وتظهر الإبيجرامية الشعرية عند مناصرة في نص ”مرة في الخليل“ بلدته الأصل، حيث يوثق بطريقته الفنية، والإيقاعية، سواد المشهد الجغرافي الفلسطيني المقسم، حيث يمنع الاحتلال هذا المد النقي لوطن محتل.
ويلمح مناصرة إلى الرحلة الموحلة مع المنفى، بوصفها المصنف على ضفة التعب، وكذلك باشتمال النص على كلمات مثل: الملح، والغرق، والطويل، والسواد، والأسى، والدمع الطافح.
يكتب مناصرة عن واقع الفلسطينيين:
”الخليلُ التي دمعها طافحٌ في عروق الجليلْ
الخليلُ التي تلمح المتوسط عند امتداد الحدادْ
كيف تغرق في الملح حتى السوادْ
الخليلُ التي لا يشابهها أحدٌ في الأسى
غير قلبي وهذا الرحيل الطويلْ.
مرَّةً … غيَّمتْ فامتطيتُ جوادي
وما ردّني غير باب الخليل“.
صراع مشهدين
كما وتلمع المفارقة المشهدية في إبيجراما مناصرة، متخطيا حدود المفارقة الدرامية، لمكان أبعد، وأكثر عناية بالاكسسوارات الشعرية، حيث يضع مشهدين كبيرين، مختلفي الحيثيات والزمن، ليبقي على التناقض بينهما على طول مشوار النص، بهدف إظهار جوهره الشعري.
ويستدعي الذاكرة العربية البطولية المتجسدة في الماضي، بمحاكاة للشاعر امرئ القيس، ويستوقد من خلال جيل شعراء الجاهلية الجمر، لاستعادة البطولة المفقودة، ولسع الوعي العربي، بإعادة توجيه بوصلته نحو فلسطين وشعبها. ويحاكي الشاعر البطولة والإقدام من خلال رمزية الخيول، واقتحام الحدود. وبفعل المفارقة ينقل الشاعر مشهدا ثانيا بطريقة الغمز، هو المشهد العربي المعاصر.
يكتب مناصرة:
”أعطني نرجسَ الماء، أعطيك خفقَة أجنحةٍ من غرامْ
(لا يساورني الشكُّ) ﻓﻲ أن هذي التي
(لا يساورها الشكُّ) قد أصبحتْ كومةً من عظام
فإن طقَّ قلبي وصاحْ:
خيولُ الثغورِ ستحرس جمرك هذا الزمان الجديدْ
قيل: بل ﺇﻧﻬﺎ سوف تهرس صمت الحدود.
يا خيول الثغور
أعطني قوّة القلب، كي أصهر الزمهرير
أعطني قوة الذاكرة
كي أنادي امرأَ القيس من قبره ﻓﻲ البقيع
حيث أُكملُ هذا المساء هجائيةً للفرزدق أو لجرير.
– صَيَّفوا ﻓﻲ أريحا وَرَبْعَنْتُ ﻓﻲ (أَنْقِرةْ)
بانتظار الذي سوف يأتي ولكنه ليس يأتي
لا أنا مع (سيدو) بخيرٍ ولا مَعَ (ستّي)“.
وتعد قصائد مناصرة حجر زاوية في الوعي العربي، والفلسطيني خاصة، بما كانت تحمله قصيدته من رؤية تحليلية للواقع الاجتماعي والسياسي العربي، من خلال اشتغاله على الشعر الثوري والتحفيزي وصار يردد في الأغاني الوطنية العربية، المناصرة للقضية الفلسطينية مثل “ بالأحمر كفنّاه“ التي غناها الفنان مارسيل خليفة.
ومثل الصوت الشعري الجهوري عند مناصرة، قبة في تاريخ الشعر الفلسطيني المعاصر، حيث امتدت كلماته في ميادين النضال ضد الاحتلال، وسمعت في أجهزة المذياع العربية لفترات طويلة، خلال الانتفاضتين الأولى والثانية في فلسطين عامي 1987، و2001.
"إرم"