نصوص رديئة لأصدقاء رائعين
زياد خدّاش
نصوص رديئة لأصدقاء رائعين
قدرنا جميعاً أن نسقط، لا مفر من هذا السقوط، في أصعب امتحان، لا قدرة لنا، جميعاً، على تغيير نمط أسئلته، لن نستطيع مقاومة كراهية نص جميل لشخص نكرهه بشدة، شخص بيننا وبينه خصومة ليست سهلة، ولن نستطيع أن نهرب من مديح نص رديء لصديق نحبه، صديق بيننا وبينه عشرة وألفة وذكريات قديمة، تلك هي مسلّمات لا مجال لدحضها أو تغييرها، ولا فرصة حتى لمناقشتها، إذ كيف يمكن أن نقول لصديقنا، الذي يتعشّى معنا يومياً وبيننا وبينه زيارات عائلية، وله الفضل علينا في مجالات حياتية كثيرة، حين يعرض علينا نصه الأخير، إنه رديء جداً؟ وكيف نعبّر عن دهشتنا ومحبتنا لعمق وفنية نص عالٍ، كتبه شخص، طالما أساء لنا وسخر منا وشتم نصوصنا؟
كان جبرا إبراهيم جبرا قد كتب عن معظم كتب الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، وكان متحمساً جداً لتجربته النثرية التي شكلت اختراقاً للسياق الإبداعي الشعري العربي في أواخر الخمسينيات، وكان صايغ متحمساً جداً في المقابل لتجربة جبرا في الترجمة والمسرح المبدعة والكتابة الروائية. وحين طلب جبرا من توفيق صايغ تقديم روايته، تهرب صايغ، ولم ينفذ رغبة جبرا، ففتر حماسهما لبعضهما بعضاً، وتغيرت علاقتهما (لم يصل الأمر إلى الخصومة).
توقف جبرا بوضوح مفاجئ عن تقريظ تجربة صايغ، ولم يكتب عنه بعد تلك الحادثة.
ويبدو أن تبادل مدائح النصوص بين الأصدقاء الأدباء أمر لا مفر منه، فلو تكلم مرة كاتب فدائي، بصراحة، عن ضعف في منجز صديقه، فستكون صداقتهما مهددة، وتخيلوا لو قام كاتب بتقريظ نص لكاتب يكن له كل الكراهية والتربص والسباب وإطلاق الإشاعات، حتماً سيرتبك الكاتب الممدوح الكاره، ولا ندري إن كان سيسامح المادح، وسيبادله التقريظ بالتقريظ، أم أنه سيمعن في تجاهله، وتلك هي طامة المادح المفاجئ الكبرى.
هذا واقعنا للأسف، لا نختار أصحابنا لأنهم مبدعون، نختارهم لأسباب أخرى، اجتماعية، غالباً، وشخصية، نفضّل لو كان أصدقاؤنا من غير الأدباء، ذلك سيجعلنا نتحلل من ضغط النفاق، فيما لو كان أصدقاؤنا ذوي مستوى هابط في الكتابة، ومتطلبات المديح المجاني السريع ووجع الإحساس، أننا نصابون وسخيفون وضعفاء، ونحن لا نكره بعض الكتاب، لأنهم مبدعون، بل لأسباب أخرى مماثلة.
لا أدعو، هنا، إلى تغيير قواعد اللعبة، لا أشجع على الصراحة، ولا أطلب إشهار سيف الحقيقة في وجوه أصحابنا الأوفياء الرائعين، لكنْ رديئي الكتابة وضعيفي النصوص، وأعرف أن كلامي سيكون مجرد تنظير فيه من رفاهية القول وكسله ولا واقعيته وفوقيته الكثير.
جربت مرة أن أخرق القاعدة، لأختبر النتائج. اتفقت مع صديق ثالث على مصارحة صديقنا الشاعر بأن ديوانه الأخير لا يرقى إلى مستواه، وأننا نخجل منه، كونه أحد الذين نفخر بتجربتهم على مستوى الوطن العربي، وطلبنا منه جمع النسخ وحرقها، (كنا صادقين جداً).
فوجئ الصديق العزيز بالرأي الجديد، اعتقد أننا نمزح، لكننا أكدنا له جدية رأينا، وحين اتصلنا به، في مساء اليوم نفسه، لنذهب، معاً، إلى القهوة، لم يرد، وهو الذي كان سريعاً جداً في الاستجابة لاتصالاتنا.
عشرات الاتصالات لم يجب عنها، والأخطر أنه قال لصديق رابع لنا، إن تجربتينا، أنا وصديقي الكاتب، تعاني من ضمور في العضلات.
وحين كتبتُ نصاً تقريظياً (نشر في أحد ملاحق الثقافة في الوطن العربي)، في كتاب شخص يكرهني وأكرهه (كنت صادقاً في حب كتابه وفي كراهية صاحبه) بشكل مزمن، ارتبك الكاره، الممدوح، وكتب يقول لصديق مشترك لدينا إن تجربتي بدأت تأخذ منحى عالمياً.
تلك هي فضائحنا، أسوأ ما في الموضوع، أننا لا نسمع أنين نصوصنا، ولا نرى دماءها النازفة، حين يتم تقاذفها بالأرجل وتمزيقها بالألسن، والتلاعب في تقييمها، حسب الأهواء والخجل والمصالح والصداقات.
النص ضحيتنا جميعاً، ذلك أحد وجوه خرابنا.