نشر بتاريخ: 2020/12/18 ( آخر تحديث: 2020/12/18 الساعة: 09:27 )

سراييفو مارلبورو.. خواطر نثرية

نشر بتاريخ: 2020/12/18 (آخر تحديث: 2020/12/18 الساعة: 09:27)

يركز كتاب «سراييفو مارلبورو» للمؤلف ميليينكو يرجوفيتش، وهو صحفى يعمل فى جريدة «أوسلوبونجى»على الأحداث اليومية خلال فترة حصار سراييفو، ويستعرض كيفية استمرار الحياة حتى أثناء الحصار والحرب، ففى ظل تلك الظروف الصعبة لا يزال الناس بحاجة إلى مواصلة الحياة حتى لو كان الحصول على الطعام والماء يستغرق معظم اليوم.

ويضم الكتاب مجموعة من القصص القصيرة حول مدينة سراييفو، وكيف عانى سكان المدينة أثناء فترة الحرب، وتعمل هذه القصص على رسم صورة للحياة فى البوسنة قبل الحرب وأثناءها.

ويستعرض الكتاب أيضا التداخل والترابط بين الجنسيات والعرقيات المختلفة فى البوسنة وتقاطع المصائر المختلفة، وعدم جدوى الحرب فى نهاية المطاف، ويعمل الكتاب برؤية أدبية متميزة على عرض تفاصيل الحياة تحت القصف فى سراييفو.

1- الرحلة

تريد أن تدفن رأسك فى الوسادة. كل ما عدا ذلك عذاب أليم. لكن سرعان ما يتلاشى دفء فراشك كأنه حلم. ويختفى النوم وتبدأ فى طرق قفص صدر أمك يؤانسك في عناد. وبينما ترمق العالم بطرف عينك تتراءى سلالم الحافلة أمام عينيك. فترسلك الأوهام البصرية بأشكالها الهندسية المتراقصة إلى النوم مرة أخرى. وفى غضون عشر دقائق أخرى تستيقظ مرة ثانية ويغمرك إحساس بالغثيان مصدره معدتك. لكن فات الأوان. أنت الآن فى الحافلة ويحيطك موظفو الأمانة العامة للمحاسبة فى رحلة إلى بلدة يايتسا.(1)

أمك هي الموظفة الوحيدة التي جلبت معها طفلًا. لأنه يتوجب عليك أن ترى الشلالات أو هكذا تدعى في إصرار. وهى لا تقبل الرفض حتى لو كان عذرك أن معدتك ثائرة وأن رأسك تمور وكأنها مجارٍ لا شلالات.

هل ستنقضي تلك الحال؟ تسمع أصواتًا آتية من الحافلة، اصطكاك زجاج النوافذ مع تمايل الحافلة القديمة عبر الطرقات. ومن خلال الزجاج تلاحظ أشياء وبشرًا ومناظر، وهذه الأشياء ستصير ربما بعد عشرة أعوام أو أقل مسقط رأسك ومعالم وطنك. وستصف تلك الأشياء بكثير من المبالغة والحماس للأجانب القادمين من البلاد الأخرى.

كان يوما مطيرا. ويفيض نهر البوسنة على ضفاف الجسور. ليس الجو الأمثل للرحلات. بالرغم من هذا يثرثر الكهول فى سعادة وهم يرمقون السكرتيرات الشقراوات اللواتى حشون حقائب الرحلات بالدجاج المقلى وغيرها من الوجبات، ومع هذه الأطعمة شرائط البانادول والأمشاط ولوسيونات ضد الشمس، وغيرها من الأشياء الصغيرة النافعة، مثل هذا الشىء الصغير الغامض الذى ستعرف فيما بعد أنه شديد الفائدة مرة كل شهر ولكن يجب تواجده كاحتياط فى الرحلات والمناسبات.

تنظر من النافذة فتلاحظ سيارة فيات مسرعة تلحق بالحافلة وتتخطاها. بداخل السيارة الصغيرة سنجد أربعة شباب يبدون وكأنهم أقزام سمينة من منظور فخامتكم المرتفع. ويسرعون كأنهم في سباق مع كل شيء وهم يستمتعون بالمطر المتساقط. ولكن يبدو أن لا أحد يراهم إلاك. فانتباه الركاب الآخرين موجه لأشياء أخرى، وهذا مفهوم بالطبع، فنحن في منتصف الأسبوع وأتاهم يوم عطلة من السماء فلابد أن يستفيدوا منه لأقصى حد. خذ مثلا جمو(2) العجوز الذى جلب معه قنينة خمر من قنائن الجيش، وها هو يمررها على الجميع، ويقدم لك الأبله معدوم الأسنان جرعة على سبيل المزاح. وتظن أولًا أن القنينة تحتوى على ماء لكن سرعان ما تغمرك رائحة الكحول الحادة، إنها نفس رائحة السائل الذى تمسح به الممرضات كتفك قبل أن يعطينك حقنة. لا يمكنك إيقاف فوران معدتك حتى تتقيأ قاذفا كل ما فيها مغطيا ظهر المقعد أمامك بهذا السائل الأخضر المصفر الذى تستمر رائحته الكريهة في منخارك لمدة طويلة. تبطأ الحافلة وتتوقف في منتصف الطريق. وينزل السائق ويتبعه باقي الركاب. أمك تخبرك بألا تتحرك. ولكنك لا تريد أن تبقى بمفردك في الحافلة. ولأول مرة تعصى أوامرها وتلحق بالجمهرة التي تكأكأت في الخارج. وتنسل من بين أرجل المتجمهرين لكى تحظى بنظرة تلقيها على الفيات المتحطمة وتلاحظ يدا تتأرجح من نافذتها، وفى غضب تغطى أمك عينيك بيديها. ولهذا لا ترى أي شيء آخر حتى تضعك في الحافلة مرة أخرى. ويتوالى صعود الركاب الآخرين المبهوتين ويتخذون مقاعدهم، لكن لا أحد ينبس ببنت شفة إلا سكرتيرة شقراء تهمس بأن منظر السيارة المهشمة قد أفسد الرحلة. لكن كيف؟.. لا تسأل لأنك تعرف أنه سيبدو سؤالا سخيفا. لقد مات راكبو الفيات، لكن يبدو أيضا أنك الوحيد الذى لم يتأثر بهذا. لماذا الحزن الآن؟ لا أحد يعرف ضحايا الحادث. ثم بدأ جمو في الحكي. إنه يحكى الحوادث الكثيرة التي رآها ومئات الحوادث الأخرى التي سمع عنها. من يسمع جمو سيظن أن كل الرحلات لابد أن تمر بسيارة فيات مهشمة على جنب الطريق.

غلاف الكتاب

ربما يمكن النظر للأمر من زاوية أخرى، ماذا لو كانت سيارتك أو حافلتك أو أى شيء تركبه موضوع سردية حزينة يرويها حكواتى عجوز مختل لجمع من النظارة المنصتين، فى وسطهم أم لشخص آخر تسارع لتغطية عينى ابنها الطفل بيديها لتمنعه من رؤية الحادث؟

حاول فقط أن تتخيل أنك في قلب هذه الدراما المأساوية لا تعرف لماذا تثيرك فكرة أن تكون محط اهتمام الناس.. لكن الغثيان اختفى وحلّ محله إحساس بنشوة مثيرة تسرى في جسدك الصغير مع انتعاظ قضيبك الطفلي في سروالك الداخلي القصير. فجأة تستيقظ تماما وتستمتع بوقتك أيما استمتاع.

تغافل أمك وترفع ساقيك في الهواء. ثم تطلب القنينة من جمو، وهنا تحصل على ضحكة مدوية من الجميع.. بعبارة أوضح، أنت الآن روح الحفل وبهجته. لا يمكن تصور سعادة أكبر.. وهنا تتمنى حتى أن تكون من ضحايا حادثة السيارة.

يايتسة مبنية من لعبة ليجو(3) ضخمة. وكأن يدين عملاقتين قد جمعتا الحجارة بعد قراءة تعليمات التركيب على ظهر العلبة.

لا يوجد شيىء حقيقى، إلا الشلالات المهولة المرعبة. تقضى الزيارة فى بلكونة مطعم تحت مظلتها محتميًا من الأمطار. ويحكى جمو حكاية فتاة قتلها العشق فقفزت من أعلى الشلالات فقتلت نفسها قربانًا على محراب الحب. وما إن أدرك المعشوق هذا، صعد وألقى نفسه أيضا.

لكن ويالسخرية الأقدار نجت الفتاة العاشقة بمعجزة، وعندما سألت عن العاشق وعرفت أنه انتحر ومات لم تتمالك نفسها وهرعت للشلالات وألقت بنفسها لتنجح فى الانتحار هذه المرة. لم يصدق أحد قصة العاشقين المنتحرين اللذين أصيبا بلعنة الأقدار. وسألته أنت لماذا لم يخرج الشاب من قفزته متقافزا مفعما بالحياة؟. لم يكن من الممكن أن تصدق أن امرأة من الجنس الأرق تعيش صدمة القفز من الشلالات بينما يموت الشاب القوى، ثم تتحداه بأن يقفزا معًا من الشلالات لنرى من سيعيش ويرفض التحدي.

ويعاود جمو حكاياته فيروى قصة التيه الخفي تحت يايتسة وعن دهاليزه التي لا تحصى والتي تتقاطع وتتعانق في تواصل لا نهائي فيضيع من يدخلها ولا مخرج منها. من الواضح أنها المكان الذى يلقون فيه تلاميذ المدرسة الذين يضبطون متلبسين بجرم التدخين في الحمامات. يا له من رعب. لم تكن قد دخنت سيجارة قط ولكن كيف لك أن تتأكد من أن أحدهم لن يشى بك ليتخلص منك وهكذا ينتهى بك المطاف إلى الدهاليز اللانهائية وتمضى بقية حياتك تائها فى ظلام دامس؟.. ويا له من مصير مرعب!!.

تزور متحفًا يحتوى على لوحات لأبطال قوميين.. هنا صنع الرفيق تيتو(4) يوغوسلافيا(5). وتسأل جمو: هل صنع تيتو يايتسة أيضا؟ ويرد العجوز: «نعم ولا»، بما يعنى أنه لم يصنعها، لكن من الممكن اعتبار أنه صنعها. لم تستطع فهم كلمات جمو، فالرفيق تيتو في اعتقادك هو الوحيد في العالم الذى يمتلك القوة الكافية لتركيب الليجو فوق الشلالات. كلمات جمو الغامضة تافهة تفوح منها رائحة العطن مثلها مثل قنينته السخيفة.

تتناول وجبة في المطعم.. تأكل شيفابي(6). لكن في طريق العودة تتقيأ.. لا يهم فقد استمتعت بأكلها.

حل الظلام. لكن لا توجد فيات لتتجاوز الحافلة التي لا تتوقف. ولا يموت أحد. توقف جمو عن الحديث عن الحوادث. يتكلم عن أشياء أخرى. على الأغلب غير حقيقية أيضا. أو ربما كانت حقيقة استغرقت لحظة قبل أن تغلق عينيك وتنام فقط لتستيقظ مع تحول لون السماء إلى الأحمر كسقف يحترق فوق أنوار سراييفو المتلألئة.

ملاحظات:

(1) يايتسة.. بلدة في البوسنة تقع في وسط كانتون البوسنة. مقصد سياحي داخلي بها شلالات وتجمعات مائية.

(2) جمو اسم التدليل البوسنى لجمال.

(3) الليجو هي لعبة المكعبات البلاستيكية الشهيرة.

(4) تيتو هو جوزيف بروز، زعيم الحزب الشيوعي اليوغوسلافي، ومؤسس اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الاشتراكية.

(5) يوغوسلافيا، دولة فى البلقان، كانت تتكون من جمهوريات سلوفينيا وكرواتيا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك، وتمزقت بعد بداية الحروب اليوغوسلافية فى 1991.

(6) الشيفابى.. هى أكلة بوسنية شهيرة تشبه أصابع الكفتة، وهى كلمة ذات أصل تركى وتحوير لكلمة كباب، وتصنع من ثلاثة أنواع من اللحوم المفرومة بنسب مختلفة ولابد أن تتضمن لحم الضأن.

*ترجم النسخة العربية: أسامة القفاش وإنس بابيتش