- قوات الاحتلال تدمر محتويات عدة محال تجارية في محيط مخيم الجلزون شمال رام الله
- قوات الاحتلال تقتحم قرية كفر اللبد شرق طولكرم
عندما وقف السيّد المسيح أمام بيلاطس البنطيّ، قال بوضوح: “مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا ٱلْعَالَمِ.” (يوحنا 18: 36)، مُعلنًا قطيعةً كاملةً بين رسالته الرّوحيّة وأي مشروع سياسيّ على وجه الأرض. هذه الكلمات هي حجر الأساس الّذي يفصل بين الإيمان الدّينيّ والمشاريع السّياسيّة الّتي تسعى إلى استغلال الدّين كغطاءٍ لتبرير الهيمنة. ومع ذلك، فإنَّ ما يُعرف اليوم بالصّهيونيّة المسيحيّة تسعى إلى نقيض ذلك تمامًا، إذ تُحوِّل اللّاهوت إلى أداةٍ سياسيّةٍ، توظِّفُها في خدمة المشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ الإسرائيليّ، متجاهلةً تعاليم السيّد المسيح وروح الإنجيل.
تضرب جذور الصّهيونيّة المسيحيّة في تحوّلات الفكر الدّينيّ الأوروبيّ منذ القرن السّادس عشر، حين تزامنَتِ الإصلاحات البروتستانتيّة مع صعود التّأويلات الجديدة للنّصوص التّوراتيّة. ومع تفكك السُّلطة البابويّة التّقليديّة، بدأ عددٌ من المفسّرين في إعادة قراءة الكتاب المُقدَّس من منظورٍ حرفي، مُتأثّرين بنصوص العهد القديم الّتي تتحدّث عن “شعبٌ مختار” و”أرضٌ موعودة”. هذا التّأويل الحرفي، المُقترن بالصّراعات الجيوسياسيّة آنذاك، أدّى إلى ظهور أفكارٍ تدعو إلى “إرسال اليهود” إلى فلسطين كشرطٍ لتحقيق النّبوءات الإنجيليّة بحسب تفسيراتهم المُنحرفة.
مع حلول القرن التّاسع عشر، تبلورت هذه الأفكار في بريطانيا وأمريكا ضمن تيّاراتٍ دينيّةٍ ذات طابعٍ تبشيريّ واستعماريّ في آنٍ واحد. كان من بين أبرز المُنظّرين لهذا التيّار اللّورد شافتسبري في إنجلترا، الّذي اعتبر أنَّ “عودة” اليهود إلى فلسطين ضرورةٌ لاهوتيّةٌ واستراتيجيّةٌ تعزّز النّفوذ البريطانيّ في الشّرق الأوسط. ومع بداية القرن العشرين، تزاوجَتْ هذه الأيديولوجيا الدّينيّة مع المصالح الاستعماريّة البريطانيّة، وصولًا إلى وعد/إعلان بلفور عام 1917، الّذي منح البعد السّياسيّ للصّهيونيّة المسيحيّة زخماً غير مسبوق.
منذ نشأتها، ارتكزت “الصّهيونيّة المسيحيّة” على فكرة أنَّ إعادة بناء “الهيكل الثّالث” في القدس على أنَّه شرطٌ لعودة السيّد المسيح وقدومه الثّاني. غير أنَّ اللّاهوت المسيحيّ التّقليديّ، كما تبلور عبر قرون، يؤكِّد أنَّ المسيح نفسه هو الهيكل الجديد، وأنَّه ألغى الحاجة إلى أيّ بناءٍ ماديّ. ففي إنجيل يوحنّا، يقول المسيح: “ٱنْقُضُوا هَذَا ٱلْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ” (يوحنا 2: 19)، موضّحًا أنَّ الهيكل الحقيقيّ ليسَ حجارةً صامتةً، بل هو تجسُّد الرّبّ في الإنسان. بناءً على ذلك، فإنَّ أي مسعى لإعادة بناء هيكل ماديّ ليسَ فقط خروجًا على العقيدة المسيحيّة ونكران الانجيل، بل هو محاولةٌ لتوظيف الدّين في مشاريع سياسيّة لا تمتُّ للرّسالة الرّوحيّة المسيحيّة بصلة.
علاوةً على ذلك، فإنَّ الفهم المسيحيّ التّقليديّ للخلاص لا يرتبط بجغرافيا مُحدّدة، بل يتجاوز الحدود القوميّة والعرقيّة. في رسالة بولس إلى غلاطية، نجد تأكيدًا واضحًا على هذا المبدأ: “لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلَا يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلَا حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لِأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.” (غلاطية 3: 28). هذا يعني أنَّ فكرة “شعب مختار” لها مدلول رمزيّ في المسيحيّة، وليسَتْ تفويضًا عنصريًّا يمنح مجموعة بشريّة حقّ الهيمنة على غيرها.
والصّهيونيّة المسيحيّة اليوم هي أحّد أهم المُحرِّكات للدّعم الغربيّ غير المشروط للمشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ الإسرائيليّ على أرض فلسطين. فمنذ منتصف القرن العشرين، لعبتَِ الجماعات الإنجيليّة في الولايات المتحدة دورًا رئيسيًّا في التّرويج لفكرة أنَّ قيام دولة الاحتلال الإسرائيليّ عام 1948 هو “تحقيقٌ لنبوءةٍ توراتيّة”، وبالتّالي فإنَّ دعمها واجبٌ دينيّ. هذا التّوجه ازداد تطرُّفًا في العقود الأخيرة، حيث لم يعُدْ يقتصر على دعم دولة الاحتلال الإسرائيليّ، بل امتدَّ إلى تأييد سياسات التوسُّع الاستيطانيّ، وهدم منازلنا، وتهجيرنا، بل وتبرير المذابح الجماعيّة وجرائم الإبادة الّتي ترتكبها دولة الاحتلال في غزّة، والقدس وباقي أنحاء الضّفّة المُحتلّة.
اليوم، نجد أنَّ القادة السّياسيّين الأكثر تطرُّفًا في دولة الاحتلال الإسرائيليّ، أمثال المُعتَرِف بفاشيته بتسلئيل سموتريتش والمُدان بدعم الإرهاب إيتمار بن غفير، يتمتّعون بدعمٍ غير محدود من التيّارات الصّهيونيّة المسيحيّة في الولايات المتّحدة، الّتي ترى في الاستيطان الاستعماريّ الإسرائيليّ خطوةً نحو تحقيق نبوءاتها المزعومة. بل إنَّ بعض القادة الصّهاينة الإنجيليّين لا يتورعون عن اعتبار المجازر الّتي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيليّ في غزّة هي “إرادة إلهيّة”!!!! وهو خطاب يتناقض كُلّيًّا مع تعاليم السيّد المسيح الّذي قال بوضوح: “طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ ٱللهِ يُدْعَوْنَ.” (متّى 5: 9).
إنَّ محاولة تصوير الصّراع في القدس وسائر فلسطين المُحتلّة على أنَّه صراعٌ دينيٌّ بين يهودٍ يناصرهم مسيحيّون مؤيّدون لدولة الاحتلال الإسرائيليّ من جهة، ومسلمون معادون لها من جهةٍ أُخرى هو تبسيطٌ مُضلّلٌ للواقع. فالحقيقة أنَّ ما يجري هو مشروعٌ استعماريّ استيطانيّ مُستمرّ منذ أكثر من قرن، يهدف إلى اقتلاع الشّعب الفلسطينيّ، بكافّة مكوّناته، من أرضه، وفرض واقع ديموغرافيّ جديد يخدم أجندة دولة الاحتلال الإسرائيليّ التوسُّعيّة. القدس المُحتلة، الّتي يُراد لها أن تكون “عاصمة أبديّة لإسرائيل”، هي مركز لمخطط طويل الأمد يهدف إلى تهويدها بالكامل عبر مصادرة الأراضي، وهدم المنازل، وطرد السُّكّان الأصليّين من الفلسطينيّين المسيحيّين والمسلمين.
أمّا المسيحيّة، فهي لا تتبنّى فكرة التفوّق العرقيّ أو الدّينيّ، ولا تُبرِّر الظّلم باسم النّبوءات الدّينيّة. وإذا كان هناك درس أخلاقيّ مُستخلص من الإنجيل، فهو أنَّ الوقوف مع المُضطهدين واجبٌ أخلاقيّ لا جدال فيه. المسيح لم يأتِ ليؤسّس مملكة سياسيّة، ولم يكن بحاجة إلى “هيكل حجريّ” ليكون هيكله. إنَّ محاولة الزّجّ بالمسيحيّة في مشروعٍ استيطانيّ استعماريّ ليسَتْ فقط تحريفًا لتعاليم المسيح، بل هي أيضًا تشويه لحقيقة الصّراع الّذي يفرضه المشروع الصّهيونيّ في فلسطين.
الصّهيونيّة المسيحيّة هي تحريفٌ سياسيٌّ للمسيحيّة، تستغلُّ النّصوص الدّينيّة لشرعنة الاستيطان والعنف. إنَّ الّذين يتبنّون هذا المسار الإجراميّ المُنحرف يخدمون مشروعًا سياسيًّا استعماريًّا لا علاقة له بالرّوحانيّة. فلسطين، الّتي شَهِدَتْ ميلاد المسيح، لا تزال اليوم شاهدةً على صراعٍ بين من يدعون إلى العدل والسّلام، وبين من يتبنّى تحريفًا أيديولوجيًّا يسعى إلى تبرير الهيمنة والقمع والمجازر والتّطهير العرقيّ.
وعلى كلِّ من يؤمن بالقيم المسيحيّة أنْ يسأل نفسه: هل يمكن لمشروعٍ قائمٍ على الاحتلال، والإبادة والتّطهير العرقيّ أنْ يكون جزءًا من رؤيةٍ إلهيّةٍ؟ أم أنَّ الصّهيونيّة المسيحيّة ليسَتْ سوى محاولةٍ أُخرى لاستخدام الدّين كسلاحٍ في لعبةِ السّياسة.