منذ اندلاع الصراع العربي الصهيوني منذ أكثر من مائة عام، كلما طرحت مبادرة أو خطة تحت مسمى" السلام" كان هناك من يسارع إلى مطالبة الفلسطينيين بعدم الرفض، أو عدم الاكتفاء بالرفض ورؤية نصف الكأس الملآن، وعدم إضاعة الفرصة والاشتباك معها، لأن الرفض وحده – وفق زعمهم - لن يسقطها، بل سيجعلها تضيع المزيد من الوقت، وتأكل معها المزيد من الأرض والحقوق الفلسطينية.
هكذا قيل بعد الرفض الفلسطيني والعربي لقرار التقسيم رقم 181 الذي تضمن إقامة دولة عربية على حوالي 43% من أرض فلسطين، في حين قامت إسرائيل على 78% من أرض فلسطين الانتدابية.
وتكرر نفس الادّعاء عندما عقد مؤتمر جنيف للسلام بعد عام على حرب تشرين 1973، مع أن الفلسطينيين لم يدعوا للحضور، لأنه يتعامل مع إزالة آثار العدوان 1967، ويستند إلى قراري مجلس الأمن 242 و338، وبدأ التعلّق بأذيال التسوية التفاوضية منذ ذلك الوقت. وانتُقِد الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات لعدم تلبيته (مع أنه كان ميالًا لذلك، ومنعته المعارضة الداخلية الفلسطينية والعربية) دعوة أنور السادات لحضور قمة "مينا هاوس" بمصر التي عقدها مع مناحيم بيغين في نهاية العام 1977، واتُهم بإضاعة فرصة الحصول على الحكم الذاتي الكامل الذي عرضه بيغين.
ومرة ثالثة سمعنا نفس المعزوفة النشاز بعد فشل قمة كامب ديفيد في العام 2000، حينما زعموا أن أيهود باراك عرض فيها 96% من أراضي 1967، ورفض ياسر عرفات العرض، وأخطأ بذلك لكون المعروض على الفلسطينيين الآن في رؤية ترامب 70%، وعليهم أن يقبلوه أو يتفاوضوا لتحسينه، أو اعتباره إحدى المرجعيات إلى جانب مبادرة السلام العربية، لأنه قد يكون أحسن عرض، وربما آخر فرصة.
إن الذين يدعون الفلسطينيين إلى "الاشتباك" مع "صفقة القرن"، وبعضهم من الأشقاء العرب والأصدقاء، إنما يرددون دعوات دونالد ترامب وجاريد كوشنر ومايك بومبيو الزائفة، والهدف منها التغطية على حقيقة "الصفقة" التي تجعلها بعيدة عن البحث عن تسوية تفاوضية، فهي رؤية أميركية تتماهى تمامًا مع أشد الرؤى الصهيونية تطرفًا التي تعطي لإسرائيل كل شيء ولا تعطي الفلسطينيين شيئًا.
أصحاب هذه الدعوات ومنهم عرب أقحاح، وقعوا تحت تأثير عبارة أبا إيبان الشهيرة عن أن "الفلسطينيين لا يضيعوا الفرصة لإضاعة أي فرصة".
كان مثل هذا الكلام ينطوي على قدر ولو قليل جدًا من الوجاهة قبل سيطرة وهم إمكانية التوصل إلى تسوية مع المشروع الاستعماري الاستيطاني، من خلال تقديم سلسلة من التنازلات العربية والفلسطينية التي ابتدأت بتصور إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية من دون إيجاد ميزان قوى قادر على إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على أي جزء يتم تحريره، وعلى الأاراضي المحتلة العام 67، لأن ميزان القوى المطلوب لإنجاز ذلك يختلف عن الميزان المطلوب لهزيمة المشروع الصهيوني عن كل فلسطين، ومن خلال التفاوض والاعتراف بقرار مجلس الأمن 242 مع أنه لا يعترف بالحقوق الفلسطينية.
في هذا السياق، طرحت مبادرة السلام الفلسطينية في المجلس الوطني الذي عُقِد في الجزائر العام 1988، الذي طرحت فيه وثيقة الاستقلال، وأقر برنامج الدولة على حدود 67، الذي مهد لحصول الموافقة الفلسطينية على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991، من خلال وفد أردني فلسطيني مشترك، وليس من خلال منظمة التحرير المعترف بها كممثل شرعي للفلسطينيين، وصولًا إلى فتح قناة سرية للتفاوض الثنائي مع إسرائيل انتهت بتوقيع اتفاق أوسلو الذي مثل ذروة "الاشتباك التفاوضي"، لدرجة انتهى إلى توقيع اتفاق أوسلو.
وقد تضمن الاتفاق اعتراف الفلسطينيين بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ العنف والإرهاب وبأثر رجعي، والخضوع للتنسيق الأمني، وأحكام بروتوكول باريس الاقتصادي الذي كرس تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، والموافقة على تقسيم الحل إلى مرحلتين انتقالية ونهائية، وفصل القدس عن بقية الأراضي المحتلة، وتأجيل التفاوض عليها مع غيرها من القضايا الأساسية إلى مرحلة المفاوضات النهائية، غير أن لم ينصّ حتى على إطلاق سراح الأسرى، ولا على وقف توسع الاستعمار الاستيطاني، وكل ذلك مقابل مجرد اعتراف إسرائيلي بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني من دون الالتزام بأي حق من الحقوق الفلسطينية، وإقامة سلطة حكم ذاتي محدود مع سيطرة أمنية وإدارية على المناطق المصنفة (أ)، وسيطرة إدارية للسلطة وأمنية للاحتلال على مناطق (ب)، وسيطرة احتلالية كاملة على مناطق (ج) التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى السماح بعودة قيادة وكوادر وأفراد ومقاتلي منظمة التحرير والفصائل إلى أراضي السلطة الفلسطينية، وهذا على أهميته جعل تقريبًا الكل الفلسطيني تحت رحمة الاحتلال.
لقد وافق ياسر عرفات على خارطة الطريق الدولية التي طرحت في العام 2003، رغم ما اكتنفها من عوار، وتم اغتياله بالسم من الاحتلال وبقرار من أرئيل شارون وبموافقة جورج بوش الابن، في حين وافق عليها رئيس الحكومة الإسرائيلية من حيث المبدأ، ووضع عليها 14 تحفظًا نسفتها وأعادت صياغتها كليًا، ومع ذلك طرح شارون بعد ذلك خطة فك الارتباط عن قطاع غزة لقطع الطريق عليها، والتفرغ للاستيلاء على الضفة، ولجعل اللعبة الإسرائيلية اللعبة الوحيدة في المدينة.
كان يمكن أن أتفهم الدعوات للاشتباك التفاوضي لو أعطى "الاشتباك" الفلسطيني وقبله "الاشتباك" العربي في عقد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي أخذت فيها مصر سيناء مقيدة مقابل فك ارتباطها بالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العربية، أُكُله، وليس كما انتهى إليه الحال الفلسطيني والعربي إلى وضع لا يسر صديقًا.
ومن لا يصدق فليعد إلى الوثائق والكتب والمقابلات التي أجراها الرئيس جيمي كارتر ومسؤولون إسرائيليون وأميركيون سابقون، التي بينت أن طرح الحكم الذاتي الكامل في كامب ديفيد الأولى لم يكن جديًا، وإنما كان بمنزلة ورقة التوت لتغطية الحل المنفرد المصري، وبدليل أن مناحيم بيغين عندما علم بأن العلم الفلسطيني موضوع على طاولة الاجتماع في "مينا هاوس" رفض الذهاب قبل رفع العلم عن الطاولة، فكيف سيقبل مشاركة ياسر عرفات في القمة؟!
أما قرار التقسيم، فلو وافق عليه الفلسطينيون في ظل الأوضاع الفلسطينية والعربية والدولية التي كانت قائمة حينذاك، وفي ظل موازين القوى، لضاعت شرعية القضية الفلسطينية من دون قيام الدولة، لأن العرب كانوا تابعين للاستعمار ومنقسمين.
إن الدليل الدامغ على ما تقدم مصير حكومة عموم فلسطين التي بقيت يافطة بلا معنى على مكتب في أحد شوارع القاهرة. وأيضًا ما قامت به العصابات الصهيونية من رفض فعلي لقرار التقسيم رغم الادعاء بقبوله، كما ظهر في ارتكابها للمجازر واحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المخصصة للدولة العربية، تنفيذًا للخطة "دالت" التي كانت موضوعة سلفًا، ومن دون معرفة الموقف الفلسطيني والعربي "الرافض" للتقسيم.
أما حقيقة إضاعة الفرصة في قمة كامب ديفيد في العام 2000، فيكفي ما قاله أيهود باراك، المعارض لأوسلو منذ البداية، بأنه لم يذهب إلى القمة لعقد اتفاق سلام مع ياسر عرفات، بل لإزالة القناع عن وجهه، نافيًا أنه طرح 96% من الأرض، بل 80% لا أكثر، وذلك ضمن عرض غير رسمي ولا مكتوب، ويتضمن السيادة الإسرائيلية على ما تحت الأرض في البلدة القديمة بالقدس التي تضم الحرم الشريف، والسيادة الفلسطينية على ما فوق الأرض، فهل هذا عرض جدي ويمكن لعرفات أو غيره أن يقبل به؟!
ألم ينكث بيل كلينتون بوعده لعرفات بعدم تحميله مسؤولية فشل القمة، بأن حمله المسؤولية قبل مغادرة طائرته الأراضي الأميركية؟
وأخيرًا، إن رؤية ترامب هي تطور أسوأ نوعيًا عما سبقها، وتشكل ترضية من اليمين الأميركي المتطرف لليمين الإسرائيلي الصهيوني المتطرف، وهي أقصى ما يمكن تحقيقه، فما سيحاولون تطبيقه أسوأ، وليست مطروحة للتفاوض، بدليل أن مرجعيتها الوحيدة الحقائق التي أقامها الاحتلال، والتصور الأيديولوجي التوراتي الصهيوني المتطرف الذي يقف وراءها، ولا بد من إدراك مغزى الشروع في تنفيذها قبل طرحها، وجاري الاستعداد لاستكمال التطبيق من خلال تشكيل لجنة أميركية إسرائيلية لرسم الخرائط تمهيدًا للضم الوارد فيها.
إن الدعوة إلى الاشتباك معها، والقبول بالتفاوض على أساسها، أو بأن تكون إحدى مرجعيات التفاوض، وصفة لنزع الشرعية عن الموقف الفلسطيني، ودعوة لتعميق الانقسام والشرذمة في صفوف الفلسطينيين، وهي دعوة تساهم - بحسن أو سوء نية - في التغطية على عملية استمرار تشريد الشعب الفلسطيني، تطبيقًا لمقولة الحركة الصهيونية الأساسية "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب".
فالمشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي العنصري الذي تحمله الحركة الصهيونية جذري، ولا يقبل التسويات، وجاري تنفيذه مرحلة وراء مرحلة، والانطلاق نحو تحقيق هدف جديد، وصولًا إلى إقامة "إسرائيل الكبرى" على كل فلسطين من دون الفلسطينيين. فهذه "أرض إسرائيل أرض الميعاد"، والفلسطينيون مجرد مشكلة يجب السماح بإقامتهم مؤقتًا في معازل وجيوب آهلة بالسكان، من دون أن يشكلوا تهديدًا، إلى حين التمكن من التخلص منهم نهائيًا، لأن بقاءهم سيفتح الطريق لإقامة دولة واحدة ثنائية القومية، والقضاء على الحلم الصهيوني بإقامة دولة لليهود.
إن الوهم بإمكانية التسوية والدخول في مفاوضات مع هذا المشروع، من دون تغيير حاسم في موازين القوى، والوهم بإمكانية تغيير إسرائيل من الداخل؛ حرثٌ في البحر، لأن المزايا الممنوحة للإسرائيليين من المشروع الاستعماري تجعل غالبيتهم الساحقة ضد التغيير. لذا، فاللهاث وراء التسوية المتوازنة في ظل هذه الشروط يمس بالصميم شرعية وعدالة النضال الفلسطيني، ويجعل المشروع الصهيوني قادرًا على تحقيق أهدافه بسرعة أكبر وتكاليف أقل.
إنّ الاشتباك التفاوضي من دون أنياب يجعل الفلسطينيين فريسة سهلة، خصوصًا في ظل الأوضاع العربية من دون مشروع عربي يشكل حاضنة للمفاوض الفلسطيني، وأكثر من ذلك رؤية ترامب التي تستهدف إقامة حلف عربي إسرائيلي أميركي، يهدف إلى إعادة النظر في الأولويات والمخاطر ليصبح العدو (إسرائيل) صديقًا.