لحرب الخامس من حزيران العام 1967 بين العرب وإسرائيل، يبدو أن معالجة نتائج تلك الحرب ما زالت تراوح مكانها، وتدعو العالم بأسره إلى التدخل من اجل طي صفحتها من هذه المنطقة التي تتوسط العالم، وتؤثر عليه بهذا القدر أو ذاك، لكن إخضاع القانون الدولي لحسابات السياسة الدولية، خاصة من قبل المتسلحين بالقوة العسكرية، ما زالوا لا يرون في الحل إلا مجرد معاهدة استسلام بلا قيد أو شرط، وهذا كان السبب في استمرار التوتر والمواجهات العسكرية والحروب المحدودة أو الموضعية منذ ذلك العام وحتى الآن.
معروف لكل الدنيا بأن أهم نتيجة لتلك الحرب كانت احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية ولأراضي الدول العربية المجاورة، لذا فانه منذ ذلك الوقت، وكل مبادرات السلام كانت تتمحور حول مبادلة الأرض بالسلام، وهكذا فإن العالم كله يدرك بأنه دون انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة بسبب تلك الحرب، لن يتحقق السلام في المنطقة، وكل ما حدث خلال العقود الخمسة التالية يؤكد هذه الحقيق التي ما زال يصعب على كثير من الإسرائيليين، خاصة في صفوف اليمين، إدراكها، لأنهم محكومون لمنطق القوة العسكرية، الذي ما زال يعتقد بأنه يمكن فرض «الاستسلام» على الآخرين الذين يراهم مهزومين أو ضعفاء، إن كان خلال تلك الحرب، أو خلال ما تلاها من مواجهات وتحولات.
بشكل جزئي، تحققت اختراقات لمعادلة «الأرض مقابل السلام»، متأثرة بالظروف الدولية الخاصة بانتهاء الحرب الباردة، وتراجع نفوذ وقوة تأثير المعسكر الاشتراكي الذي كان يكبح من جماح «تغوّل» الأميركيين في الهيمنة على العالم بأسره، خارج إطار القانون الدولي، الذي يحاول أن يحقق العدالة الكونية، في عالم تعصف به الصراعات والمنافسات الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين، بعد أن عصفت به الحروب العسكرية خلال القرن العشرين، وكان ذلك عبر اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، التي لم تستقر إلا بعد ثماني سنوات من توقيعها، بسبب جيب جغرافي صغير، هو طابا.
إسرائيل كانت ترى في تجزئة الحل، بعد أن كان العرب مجتمعين (أي مصر وسورية والأردن) شركاء في تلك الحرب، حلاً مناسباً لها، وفعلاً لم تواجه منذ ثمانينات القرن الماضي حرباً شاملة تشترك فيها أكثر من دولة عربية، رغم أنها شنت حرباً على لبنان عام 82، أي بعد كامب ديفيد بأقل من خمس سنوات، احتلت فيها لأول مرة عاصمة دولة عربية، هي بيروت، دون أن تتدخل دولة عربية أخرى في الحرب ضد إسرائيل، التي كانت ضد (م ت ف) ولا حتى سورية المجاورة والتي تحتل إسرائيل أرضها في الجولان.
لكن رغم ان اتفاقات كامب ديفيد وضعت حداً للحروب العربية الجماعية ضد إسرائيل، إلا أنها _كما أسفلنا_ لم تضع حداً للمواجهات العسكرية وللتوتر بينها وبين جيرانها، فقد اضطرت إلى مواجهة حرب تحرير شعبية لاحتلالها في جنوب لبنان، فرضت عليها الانسحاب منه عام 2000، أي بعد ثمانية عشر عاماً على احتلاله، كذلك عدم انسحابها من الجولان ما زال يحول دون عقد معاهدة سلام ما زالت ناقصة مع سورية، فيما اضطرت بسبب انتفاضة 1987، إلى توقيع اتفاقية سلام مع (م ت ف) تبعتها معاهدة سلام مع الأردن في وادي عربة.
وبقي أمر احتلالها للأرض الفلسطينية خاصة أمراً معلقاً بنتيجة التفاوض بينها وبين (م ت ف) حسب الاتفاقيات المبرمة بينهما والشاهد عليها الجانب الأميركي، لكن بعد أن خاض الجانبان مفاوضات ماراثونية دون التوصل للحل، وكانت خلال كل الوقت إسرائيل تقيم على الأرض العراقيل بزرع المستوطنات، فإنها لم تكن قادرة على التصريح، بأنها لا تريد حلاً قائماً على مبدأ مبادلة الأرض بالسلام، رغم أن المفاوضات اقتصرت الرعاية على الجانب الأميركي الحليف السياسي الدائم لها، لكن صمود الجانب الفلسطيني، وعدم رفعه لراية الاستسلام البيضاء، أخّر إقدام إسرائيل على الضرب بعرض الحائط بالقانون الدولي، وإعلان ضم الأرض المحتلة، بعد أن قامت مبكراً بقرارات مماثلة لكل من القدس والجولان.
في حقيقة الأمر فإنه ورغم مرور مياه كثيرة في النهر_كما يقولون_ منذ ثلاث وخمسين سنة، إلا أنه أيضا جرت مياه أخرى في النهر منذ ثلاثة عقود، أي منذ انتهاء الحرب الباردة، التي جرى توقيع اتفاقات أوسلو بعدها مباشرة، وعالم اليوم هو غير عالم الأمس، لذا فإن اليمين الإسرائيلي، يرى في وجود دونالد ترامب، وكان قد رأى ذلك منذ فوزه في انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني 2016، فرصته الأخيرة لإعلان ضم الأرض الفلسطينية المحتلة، ورغم انتزاعه ذلك الأمر ضمن «صفقة ترامب» في كانون الثاني من هذا العام، ونيته في اتخاذ قراره الحكومي بعد ثلاثة أسابيع من الآن، إلا أن الرفض الدولي ليس فقط لما يقوم بخرقه نتنياهو وترامب للقانون الدولي وتهديدهما للسلام العالمي، بل ومن ارتكاب جرائم حرب، يجعل من كلا الرجلين ليسا خارجين عن القانون وحسب، بل ومطلوبين للعدالة الدولية.
هذا ما سيفسر الحنق المتزايد لكل من حكومة اليمين الإسرائيلي وإدارة ترامب الجمهورية المتشددة، خاصة ضد المنظمات الدولية، إن كان منظمة الصحة العالمية أو المحكمة الجنائية في لاهاي، أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، لذا فانه، بتقديرنا، لا يتعدى الأمر كونه لحظة حلاوة الروح لبقايا نزعة التفوق العرقي والقهر العسكري، لدى «بلطجي إقليمي» هو نتنياهو و»بلطجي دولي» هو ترامب، وكلا الرجلين يواجهان مشاكل أمام القضاء في بلديهما، وبعد أن واجه نتنياهو صعوبة بالغة في إقناع الإسرائيليين ببقائه رئيساً للحكومة، انتقل الأمر لصديقه ترامب، الذي يواجه اليوم انتفاضة شعبية غير مسبوقة، تجعل من حظوظه في البقاء بالبيت الأبيض حلماً مستحيل التحقق، وهكذا كما واجه الكثير من الجناة والمجرمين العدالة، تجد الدنيا كلها نفسها في مواجهة مع ترامب - نتنياهو، ذلك أنه لا يستوي تحقيق العادلة مع الجناة والخارجين عن القانون الذين لا بد أن يذهبوا إلى السجن بدلاً من الجلوس في البيت الأبيض، أو في مقر مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية.