شعبان فتحي: الذكرى هي ذاتها، أبو عمار حاضر في كل الأزمنة، استعادة حكايات المكان ليست إلا إضاءة جديدة على الذاكرة التي تفقد الكثير من الأحداث، إلا تلك المتعلقة بالشهيد الراحل ياسر عرفات والتي باتت عصية على المسح، وكأنها كتبت على جدار صخري.
في 4 أغسطس/آب عام 1967 بعد أسابيع قليلة من هزيمة الجيوش العربية بعد النكسة وصل رجل بسيط إلى نابلس كان يدعى أبو محمد، ومن ثم عرفه العالم كزعيم تاريخي للشعب الفلسطيني، إلى كبرى مدن الضفة الفلسطينية للإعداد لمرحلة جديدة من الثورة الفلسطينية.
حوش العطعوط، ومغارة بيت فوريك، ليست مجرد معالم تاريخية بالنسبة لأهالي نابلس، من هذه الأماكن أعاد الشهيد الراحل ياسر عرفات الروح المعنوية لكل العرب بعد نكسة 1967، كان قادرا على اعتلاء القهر لينثر الأمل بأن المعركة لم تُحسم بعد، ولا زال الشعب الفلسطيني ثائرا رغم الهزيمة العربية.
في عام 1995 خطب الرئيس الشهيد ياسر عرفات في جماهير نابلس وقال "أعاهدكم أيها الأحرار أيها الشرفاء وأنا أقف أمامكم وقد تنقلت سراً بينكم في قصبتنا في المدينة القديمة وجبال نابلس ثائرا، أن نبني دولة الأمن والأمان والحرية والديمقراطية بوحدتنا الوطنية وتلاحمنا الأبدي كما اتفقنا معا".
الرجل البسيط أبو محمد
ياسر عرفات.. واحد من أبرز القادة العظام في العالم خلال القرن العشرين، لكن في حوش العطعوط الذي تفضي إليه عدة طرقات ضيقه في المدينة كان الرجل البسيط الذي يناديه عدد قليل من الراجل الذين ساعدوه على التحرك بـ"أبو محمد".
عقب حرب يونيو/حزيران 1967م، راح "أبو محمد" يتنقل بين القدس ورام الله ونابلس ليبني قواعد تحتية للعمل الفدائي في الأرض المحتلة، وتولى رئاسة حركة فتح ومن بعدها اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
"أبو محمد".. هكذا عرف الناس الزائر الجديد لمدينة نابلس، اتخذ من أحد البيوت في حوش العطعوط بحارة الياسمينة مقرا له، كان هناك عدة أشخاص يتناوبون على حراسة المنزل، وفي الداخل كانت تدور تفاصيل مثيرة لإعادة تشكيل الخلايا العسكرية في الوطن، قلة كانوا يعلمون أن الزائر هو ياسر عرفات، وكل شئ يجري بسرية تامة، استعدادا لبدء العمل الفدائي من داخل الوطن المحتل.
الفدائي الثائر
لم تنجح العقود الماضية في انتزاع ما في ذاكرة اللواء عبد الإله الأتيرة من أحداث وروايات خلال مرافقته للشهيد أبو عمار، في نابلس، وكأن تفاصيلها تجري الآن، وكلما تحدث عن قصة يعود ليُذكر بالروح المعنوية العالية التي نجح الشهيد ياسر عرفات في زرعها مجددا بعد النكسة، وكأنه تحدى كل أعراف الهزائم، وقرر أن يُنتج عُرفا جديدا ملخصه "الشعب الثائر لا يموت ولا ينهزم".
يروي اللواء "الأتيرة" جزءًا من التفاصيل وكثيرا من صفات الفدائي الفلسطيني القادم من الخارج لإحياء العمل العسكري ضد الاحتلال.
من هنا بدأت المقاومة
مكث "أبو محمد" أياما قليلة على فترتين في نابلس، نجح في هذه المدة الزمنية القصيرة في عقد عشرات الاجتماعات وتمكن من تشكيل الخلايا العسكرية اللازمة لاستئناف المقاومة ضد المحتل.
يقول الأتيرة، "لولا حضوره إلى نابلس لما تمكنا من فعل شئ، فهو كان الأقدر على جمع الكل تحت قضية واحدة لا غير وهي مقاومة الاحتلال، نعم كان هناك بيئة فدائية جاهزة وحاضرة ومجموعات بدأت تتشكل، إلا أن حضوره كان عاملا حاسما في ترتيب الأوراق المبعثرة، أنا برأيي كانت هذه الانطلاقة الثانية لحركة فتح بعد انطلاقة عام 1965، كل الدول العربية شعوبا وقيادة كانت تنتظر من شخص واحد أن يفعل شيئا يعيد الأمل للأمة العربية، حتى أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر اعتمد على ياسر عرفات في إعادة الأمل للأمة العربية، أبو عمار الاستثنائي نجح في ذلك، وأخذ على عاتقه مهمة فردية أبدع فيها، عندما اتحدث عن الشهيد الراحل لا أرى إلا الفدائي الثائر، كان دوما بالمقدمة".
عرفات الملهم
يتحدث الأتيرة عن صفات شخصية في القائد الراحل "أبو عمار لم يكن يجلس في مكان، دائم التنقل، حذر جدا وحسه الأمني عالي لأبعد الحدود وبالغ الدقة، يدرك كل شئ يفعله، كان ملهما لنا بكل صفاته، شدة تواضعه وحكمته وقدرته على التخفي".
يبدي الأتيرة انبهارا في قدرة أبو عمار على جمع الناس حوله حتى دون أن يعرفوا شخصيته الحقيقية، مضيفًا، لم نكن في البداية إلا ثمانية أشخاص، وفجأة أصبحنا مئات وكل هذا بفضل الشهيد الراحل وقدرته على جمع الكل، مكث بيننا أسبوعين في حوش العطعوط، وغادر إلى مواقع مختلفة من فلسطين، وعاد مجددا ومكث عدة أيام ليغادر بعدها إلى خارج الوطن بأوامر من قياد العاصفة ويبدأ كفاحا مسلحا ضد المحتل".
ويتحدث الرجال الذين رافقوا الخالد ياسر عرفات، الذي عاد مرتين إلى المدينة قبل التوجه إلى قطاع غزة عن بساطة الرجل الذي كان يفضل الحمص والفلافل على مائدتي الفطور والعشاء.. ذاته الاتيره قال: إنه كان يحضر هذه الحاجيات من مطاعم قريبة في البلدة القديمة.
مغارة أبو عمار
قضي أبو عمار أسبوعين داخل حوش في بلدة فوريك المجاورة، كما قال الأتيره، "وصلت إلى الحوش بعد أن أرسلني في مهمة كان حينها لم يتناول الرئيس الطعام، لم يأكل ولم يشرب".
وأضاف، لا زالت مغارة "أبو عمار" في بلدة فوريك مزارا للكثيرين، ففيها تجسد جزء كبير من حكاية الثورة، وهناك توسد الشهيد الراحل حجارة المكان، وفي كل ذكرى لرحيله يقصد المئات المغارة الملهمة، وإحدى معالم بداية الثورة الفلسطينية.
العودة إلى نابلس
وعاد الرئيس إلى نابلس بعد اتفاقات أوسلو، وكان في 1993 وافق على خطة أوسلو، وفي 1994 عاد إلى فلسطين رئيسًا للسلطة الوطنية في غزة وأريحا.
وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني توفي أبو عمار في مستشفى بفرنسا بعد مرض مفاجئ حيّر الأطباء، ويعتقد أنه تم تسميمه، وتجرى عملية تحقيق طويلة بشأن موته حتى الآن.