أربع سنوات من عهد دونالد ترامب الرئيس الأمريكي المثير للجدل غيرت كثيراً من واجهة الولايات المتحدة التي نعرفها. وما تشهده الولايات المتحدة اليوم من مأزق سياسي تسبب به ترامب لرفضه الإقرار بنتائج الانتخابات ما هو الا نتاج لما زرعه خلال سنوات حكمه. فقد لعب ترامب على نقاط ضعف المجتمع الأميركي ونظامه السياسي، والتي يعلم خفاياها جيداً، وسخرها لصالحه ولخدمة مآربه بالبقاء في السلطة رغم هزيمته. وليس من المهم في هذا المقام البحث في ثنايا وتعقيدات شخصية ترامب بقدر اهتمامنا بمراجعة الثغرات التي نجح ترامب في كشفها واثارتها في إطار بنية الولايات المتحدة الاجتماعية والسياسية، لأنها باتت واقعاً يصعب التجاوز عنه حتى بعد وصول جو بايدن الرئيس الأميركي الجديد إلى البيت الأبيض.
وكانت وسائل الإعلام الأميركية، ذات المصداقية الكبيرة والمتابعة الراصدة بدقة وتقنية عالية لنتائج الانتخابات، قد رجحت فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية، سواء في الانتخابات الشعبية أو في المجمع الانتخابي، وهو عرف اعتادت عليه الولايات المتحدة في انتخاباتها الرئاسية السابقة. في المقابل، رفض ترامب تلك النتائج، واعتبرها مزورة، في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة. وكان ترامب قد رفض أي نتيجة لا تقر بنجاحه قبل الانتخابات واعتبرها بشكل مسبق تعكس تزويراً وسرقة للانتخابات، في مشهد عبثي تهكمي أصاب الولايات المتحدة وصورتها بشكل عام.
ولا يعتبر هذا السلوك لترامب جديدا، فقد شكك في انتخابات عام ٢٠١٦ بنزاهة الانتخابات، وادعى أن هناك تزويرا فيها بعد أن جاءت نتائج التصويت الشعبي أو الوطني لصالح منافسته هيلاري كلينتون بزيادة ثلاثة ملايين صوت. وكشف ترامب بسلوكه غير المعهود عن عيوب المنظومة الديمقراطية الأميركية لأول مرة في تاريخ البلاد. وكان الخلاف يحدث سابقاً حول حساب عدد الأصوات، لكن عادة ما تم تجاوزه بطرق قانونية ودون ضجيج. وكان جورج دبليو بوش شكل فريقا قانونيا في العام 2000 لمراجعة نتائج الانتخابات في حينه بمواجهة آل غور، وهو ليس الحالة الوحيدة. ويرفض ترامب الإقرار بنتائج الانتخابات حتى هذا اليوم، معتبراً أن التصويت بالبريد غير قانوني، ومؤكداً حدوث تزوير وغش في الانتخابات.
وتقر الولايات المتحدة العمل بنظام التصويت بالبريد، وعملت به في انتخابات سابقة، لكنه لم يكن بهذه الكثافة كهذا العام بسبب جائحة كورنا. كما لم يبلغ القائمون أو المراقبون على الانتخابات عن أي مخالفات ذات مغزى، خلال سير العملية الانتخابية أو حتى أثناء عمليات الفرز. ورفضت هيئة الأمن السيبيري وأمن البنية التحتية التابع لوزارة الأمن الداخلي، والتي أقال ترامب رئيسها كريس كريبس أمس، ادعاءات ترامب حول تزوير الانتخابات. كما أكد المدعون العامون الفدراليون المكلفون بمراقبة الانتخابات في رسالة ارسلوها إلى وليم بار وزير العدل على عدم وجود أي دليل على مخالفات كبيرة أو مقصودة في عمليات الاقتراع أو الفرز. وأكد كذلك رئيس فريق مراقبي الانتخابات الدولي التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا مايكل الذي قام بمهمة مراقبة الانتخابات الأخيرة عدم وجود أي انتهاكات أو خروقات للقواعد الانتخابية المطبقة.
وقاطعت محطات التلفزة الرئيسية في الولايات المتحدة والمعروفة بالثلاث الكبار (سي بي أي - أي بي سي – إن بي سي) خطاب ترامب عندما تضمن تحريض واتهامات بتزوير الانتخابات. وأنكرت قناة فوكس نيوز والداعمة لترامب، ورغم بثها لادعاءاته، وجود أدلة على انتهاكات انتخابية مهمة. ودعت صحيفتا «وول ستريت جورنال» و»نيويورك بوست»، المعروفتين بدعمهما للجمهوريين، ترامب للقبول بنتائج الانتخابات.
لجأ ترامب إلى القضاء للتشكيك بنزاهة الانتخابات في الولايات المتأرجحة، ساعياً لتبديل النتيجة لصالحه، اذ تقدم بعدد من الطعون القانونية في أنحاء متعددة فيها. ويستغل ترامب في معركته الانتخابية الحالية حالة الانقسام والاستقطاب المجتمعي الحاد، التي تأججت د طوال عهده في السلطة، ووصلت حداً لم تشهده البلاد منذ الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان. وعكست المشاركة الانتخابية الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة واقع ذلك الاستقطاب، فحوالي مائة وخمسين مليون ناخب شاركوا فيها، وحصل بايدن على أكثر من ستة وسبعين مليون صوت مقابل حصول ترامب على أكثر من واحد وسبعين مليون صوت، فحصد كل طرف على حدة على عدد أصوات لم يحصل عليها أي رئيس أميركي سابق على مر تاريخ البلاد. وتدعم شريحة واسعة من الاميركيين موقف ترامب، خصوصاً ذات التوجهات المتعصبة للقومية البيضاء والبروتستانت المتدينين، اذ شكك ٧٠٪ من الجمهوريين في نزاهة الانتخابات، متأثرين بادعاءات ترامب. وتوجت تلك الحالة من الاستقطاب بصدامات بين أنصار ترامب ومعارضين له في مختلف أنحاء البلاد خلال فترة الانتخابات وفي أعقابها.
وزحفت حالة الانقسام لتصل الى صفوة نخب الحزب الجمهوري نفسه. وفي حين يدعم ميتش ماكونيل رئيس الأغلبية الجمهوري في مجلس الشيوخ وكل من ليندسي جراهام وتيد كريس عضوي مجلس الشيوخ ترامب، ترفض نخب آخرى من الحزب الجمهوري مواقفه. ولم يدعم عدد من أعضاء فريق ترامب ادعاءاته بتزوير الانتخابات على رأسهم وليم بار المدعي العام ومارك إسبر وزير الدفاع الأسبق، الذي أقاله ترامب من منصبه بعد ظهور نتائج الانتخابات، وتشاد وولف وزير الامن الداخلي بالإنابة. وهنأ جورج بوش الابن الرئيس السابق للولايات المتحدة وبن ساس عضو مجلس الشيوخ بايدن ونائبته بالفوز. واعتبر لاري هوجان حاكم ولاية ماريلاند وميت رومني عضو مجلس الشيوخ الجمهوري تصريحات ترامب بأنها تقوض العملية الديمقراطية. ودعا كل من كريس كريستي حاكم ولاية نيوجرسي السابق وأحد أبرز حلفاء ترامب وكذلك بات تومي السناتور الجمهوري عن ولاية بنسلفينيا وجيمس لانكفورد السناتور الجمهوري عن ولاية أوكلوهاما ترامب للقبول بنتائج الانتخابات. كما ودعا آدم كينزينجر النائب الجمهوري ترامب إلى وقف نشر المعلومات المضللة.
ويستغل ترامب ثغرات النظام الانتخابي الذي نص عليه الدستور منذ أكثر من قرنين من الزمان، للانقلاب على نتائج الانتخابات، اذ على الرغم من فوز بايدن في الانتخابات الشعبية أو القومية بأكثر من خمسة ملايين صوت، والتي تعد الآلية المعتمدة للفوز في أي نظام انتخابي ديمقراطي، يتم التركيز في الولايات المتحدة على أصوات المجمع الانتخابي الذي اعتمدت فكرته قبل قرون للموازنة بين أصوات الولايات المتصارعة. ويدعو الدستور الولايات المختلفة لاختيار المندوبين الذين توكل اليهم مهمة انتخاب الرئيس. ورغم تطور قوانين الولايات في وضع آليات اختيار هؤلاء المندوبين، والتي باتت تعكس تدريجياً نتائج التصويت الشعبي فيها، الا أن تلك القوانين تبقى تشريعات اتحادية أقل قوة من النص الدستوري الذي لا يشترط انتخاباتهم، اذ يكفي اختيارهم من قبل المجالس التشريعية لتلك الولايات.
في إطار تلك الثغرة الدستورية، وفي ظل عدم البت بتلك الطعونات التي يرفعها ترامب في ولايات ترجيحية، واستمرار إصراره وفريقه ومؤيديه رفض نتائج التصويت فيها، قد تضطر تلك الولايات لاختيار مندوبيها من قبل مجالسها التشريعية، والتي تعكس تلقائياً توجهات الحزب المسيطر فيها. ومن المعروف أن هناك ثماني ولايات من بين الولايات التسع المتأرجحة تسيطر عليها مجالس تشريعية ذات أغلبية جمهورية التوجه. كما أنه وفي حال تساوي أصوات المجمع الانتخابي بين المرشحين الرئاسيين، أو عدم قدرة أي منهما على تحصيل ٢٧٠ صوتاً بسبب عدم احتساب أصوات ولاية ما أو أصوات عدد منها، تؤول عملية اختيار الرئيس إلى الكونغرس، والذي يمثل في هذه الحالة بصوت واحد عن كل ولاية. ويمتلك الجمهوريون حالياً وضمن ذلك الوضع 26 صوتاً مقابل 23 صوتا فقط للديمقراطيين.
إن هذا يعكس بوضوح عيوب النظام الانتخابي الأميركي الذي لا يعمل بنظام ديمقراطي مباشر، ويعطي مكانة كبيرة للولايات، والتي تعمل بانظمة انتخابية متباينة، ويمنح النخب السياسية في الولايات سطوة على الأصوات الشعبية. ومن الممكن حسب هذا النظام الانتخابي أن تعطل ولاية واحدة من الولايات الكبرى أو عدد من الولايات الأصغر العملية الانتخابية برمتها. وتعطي آلية الانتخاب عبر المجمع الانتخابي والمعتمدة عملياً لرصد النتائج الولايات الصغيرة دوراً سياسياً يضاعف تأثيرها. وخسر الديمقراطيون الانتخابات عدة مرات قبل هذه الانتخابات رغم انتصارهم في التصويت الشعبي لخسارتهم التصويت في المجمع الانتخابي، لأن التصويت في اطاره يعطي الولايات المحافظة أكثر من حجمها الحقيقي.
تحمل الأيام القادمة الكثير من المفاجآت، فما بين اعلان المجمع الانتخابي لكل ولاية من الولايات المكونة للولايات المتحدة رسميا عن نتائج انتخاباتها في الشهر القادم (كانون الأول) وما بين استلام الرئيس الجديد للبيت الأبيض مهامه الجديدة في الشهر الذي يليه (كانون ثاني)، في ظل إصرار الرئيس ترامب وفريقه بالفوز في هذه الانتخابات، وعدم التصريح رسمياً حتى الآن من قبل الولايات بنجاح بايدن، ورفض فريق ترامب البدء في اجراءات التسليم لفريق الرئيس الجديد حسب العرف المعمول به في الولايات المتحدة يبقي السؤال المفتوح، هل نجح ترامب في زعزعة البنية الديمقراطية الاميركية؟ ورغم أن آمال ترامب بالبيت الأبيض بدأت تتبدد تدريجياً بتخلي عدد من قيادات حزبه عنه، وبوصول عدد من رسائل التهاني من عواصم العالم المختلفة للرئيس الجديد بايدن، جاء آخرها الاتصال الهاتفي من قبل نتياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وحليف ترامب الرئيس، تبقى القضية المؤكدة أن ما تمر به الولايات المتحدة اليوم لن يمر مروراً عابراً وستبقى ظلاله لسنوات قادمة. فالانقسام العمودي والطولي في المجتمع الأميركي الذي يعكس الانقسام الأيديولوجي العرقي والثقافي قد حدث، حسب تأكيدات باراك أوبامـــا الرئيس الأميركي السابق وناعوم تشومسكي المفكر الأميركي الشهير.
"الأيام"