بينما لم يتبقَّ سوى أيّام قليلة على الموعد الذي حدّده دونالد ترامب لإتمام صفقة التبادل ووقف الحرب الإبادية، تستعد دولة الاحتلال لمرحلة من الاضطراب الشامل على خلفية الفشل الذريع في تحقيق أيّ من الأهداف التي أعلنها بنيامين نتنياهو تحت عنوان تحقيق النصر المطلق.
بعض الكتّاب والمسؤولين السابقين الذين نصحوا نتنياهو القبول بمقترح جو بايدن، في أيار 2024، عادوا ليذكروا بأنه يضطرّ اليوم للقبول، بعد فقد عشرات الأسرى ومن دون تحقيق أيّ هدف، سيّما الإفراج عنهم بفعل الضغط العسكري.
يلخّص الكاتب الإسرائيلي يائير أسولين المشهد الأخير بالقول «حتى لو أننا قمنا باحتلال الشرق الأوسط واستسلم الجميع، لن ننتصر في حرب غزة». على أنّ التقييم الأهمّ جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي اعترف بأنّه لا يمكن هزيمة حركة حماس بالحلّ العسكري، فلقد عزلت غزّة إسرائيل دولياً، وسبّبت حالة من عدم الاستقرار وأنّها جنّدت عناصر جديدة بقدر ما خسرت.
ولعلّ الأهمّ فيما أدلى به بلينكن، بأنّ بلاده تسعى لإنهاء الحرب بطريقة من شأنها تعزيز التطلُّعات المشروعة للإسرائيليين ودولة للفلسطينيين وأنّ على الإسرائيليين التخلّي عن الأسطورة القائلة إنهم قادرون على تنفيذ الضمّ بحكم الأمر الواقع.
تنطوي تصريحات بلينكن على اعتراف صريح بفشل إدارته، التي انساقت خلف نتنياهو، وكان بإمكانها أن توقف الحرب الإجرامية، كما يفعل ترامب، ما يجعلها شريكاً كاملاً في الفشل.
ربما تكون المرّة الأولى التي يُدلي بها مسؤول أميركي كبير بمثل هذه الاعترافات الجدّية، حيث بقيت شعارات «حل الدولتين» مرهونة لسياسة ذر الرماد في العيون. ليس ذلك وحسب، بل إنّ إدارة بايدن التي قدّمت لدولة الاحتلال مساعدات بنحو 25 مليار دولار، لم تجرؤ على إقناع أو إرغام نتنياهو بما تتحدّث عن خطتها لـ»اليوم التالي»، فتقوم بترحيلها لإدارة ترامب.
لا شيء في دولة الاحتلال سوى الحديث عن الفشل والاستسلام، في حين تغيب تماماً لغة الانتصار، الأمر الذي يوفّر مناخاً خصباً للانقسامات والاتهامات والتحقيقات، والاستقالات.
نتنياهو لم يعد يملك لا الوقت ولا الحيلة، لتأجيل الوصول إلى نقطة النهاية، وهو مشغول في كيفية الحفاظ على ائتلافه الحكومي الفاشي الذي يشهد تصدُّعاً على خلفية الموقف من الصفقة.
عشرة وزراء يعلنون رفضهم الموافقة على الصفقة، لكن ذلك لا يمنع من الحصول على أغلبية لضمان الموافقة. الأخطر من كلّ ذلك تهديدات إيتمار بن غفير، الذي يطالب زميله بتسلئيل سموتريتش، بالانضمام إليه نحو اتخاذ موقف بمغادرة الحكومة في حال التوقيع على الصفقة.
ويتّفق الاثنان بن غفير وسموتريتش على أن الصفقة تنطوي على «استسلام» وأنها «كارثة للأمن القومي الإسرائيلي».
نتنياهو الذي ماطل كثيراً وطويلاً، واحتال كثيراً على الوسطاء، لشراء المزيد من الوقت لكي يتمكّن من تحقيق الانتصار المطلق، دخل إلى القفص الذي راهن على أنه سيكون مصدر نجاته.
أن يصدر تحذير حازم من ترامب، الذي افترض نتنياهو أنّه «مسيحه المُخلِّص»، فيتفاجأ أنّه من يضع السلسلة في رقبته، تلك هي المفاجأة التي لم يتوقعها الأخير في أسوأ كوابيسه.
تشير الصحافة الإسرائيلية إلى الطريقة التي تعامل بها مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف مع نتنياهو، بعد أن وصل إلى دولة الاحتلال لتقديم البلاغ الأخير. لم يترك ويتكوف لنتنياهو فرصة للتملص واستهلاك المزيد من الوقت في مناورة مكشوفة لا طائل من ورائها.
حين أبلغ ويتكوف مكتب نتنياهو الحاجة لإجراء لقاء ردّ عليه الأخير بأنّ اللقاء ممكن بعد الخروج من السبت (انتهاء حرمة السبت)، فما كان إلّا أن أذعن لقرار المبعوث الأميركي الذي قال: أنتظرك على الساعة العاشرة.
وبحسب التسريبات الإسرائيلية، فإن ويتكوف قال بوضوح لنتنياهو «إن ترامب يريد صفقة أو سيكون لذلك تداعيات».
تؤكد كلّ الوقائع المرتبطة بمحاولات تحقيق الصفقة أنّ أميركا هي صاحبة القرار كانت ولا تزال، وأنّ هذه الحرب ما كانت ستستمر كل هذا الوقت، وتحدث كل هذه المتغيّرات، لو أنّ إدارة بايدن استخلصت الدروس التي استخلصها بلينكن في الوقت المناسب.
إدارة بايدن في النتيجة لم تنقذ دولة الاحتلال بل إنها ساهمت في توريطها وتدفيعها أثماناً باهظة، ودفعتها إلى دوّامة الفشل والهزيمة والتعرّض لزلازل التناقضات الداخلية فضلاً عن إحكام عزلتها دولياً.
خسارة دولة الاحتلال الحرب على القطاع واضحة بكلّ المعايير، فلا هي تمكّنت من حماية أمن المستوطنين في «غلاف غزة»، ولا تمكّنت من تحرير الأسرى بالقوة، ولا نجحت باعترافها في القضاء على «حماس» وحكمها عسكرياً ومدنياً، ولا هي، أيضاً، حقّقت ما أرادت تحقيقه من «خطة الجنرالات».
سيكون على دولة الاحتلال أن تنسحب من كل القطاع، وهي قد بدأت ترتيبات الإخلاء من محوري «نتساريم» و»فيلادلفيا»، وكذا من معبر رفح، وفيما سينشغل الفلسطينيون في إعادة بناء حياتهم من جديد سيكون، أيضاً، على دولة الاحتلال أن تدخل في عملية هدم داخلي لبناها العسكرية والاجتماعية، والأمنية والسياسية والاقتصادية.
وإذا كان إعادة بناء الفلسطينيين لحياتهم ستستغرق سنوات، فإنّ قضيتهم هي الرابح الأكبر والإستراتيجي، فيما ستحتاج الدولة العبرية إلى عقود حتى تستعيد، وقد لا تستعيد هيبتها، ومكانتها على المستوى الدولي بعد أن انهارت سرديّتها، وأخلت المجال للسرديّة الفلسطينية.
من شأن نتنياهو أن يتحدث عن انتصارات تكتيكية تمثّلت في تدمير بيوت وحياة أهل غزّة، وإضعاف «حماس»، وربما يتحدث عن انتصارٍ زائف في لبنان، وانتصارٍ كبير في سورية، لكن كل ذلك ليس من شأنه أن يبدّد مشاعر الفشل والهزيمة التي لحقت بدولة الاحتلال.
صحيح أنّ الثمن الذي دفعه الفلسطينيون باهظ جدّاً، لكنه لم يذهب سُدى، ما يرتّب على أهل العقد والحلّ من الفلسطينيين أن يتداركوا كيفية الاستثمار، وتحويل نتائج الحرب إلى إنجازات سياسية ذات مغزى وأبعاد وطنية تحرُّرية.
ينبغي أن يكون الفلسطينيون قد أدركوا ما أدركه بلينكن من أنّه لا يمكن إقصاء أحد، مهما كان المشهد الذي ينتظر غزّة وفلسطين في «اليوم التالي»، الذي ينبغي أن يكون فلسطينياً بامتياز وحصرياً.