أما وإن الانتخابات الرئاسية الأميركية الصاخبة قد انتهت، وهي كانت كذلك، لأنها جاءت بعد ولايتَي رئيسين إشكاليين، ربما كانا من أضعف الرؤساء الجمهوريين والديموقراطيين، حيث لم ينجح أحدهما في الاحتفاظ بمنصب الرئيس للدورة التالية بشكل تلقائي، فترامب نجح بالعودة للبيت الأبيض بعد فشل سابق، لا يمكن لعودته أن تمحو آثاره المرة، أما بايدن، فإنه يخرج من البيت الأبيض، ولن يعود اليه بالطبع، وهو لم يفعل شيئاً مهماً، يُذكر به، خلال ولايته الوحيدة، وهكذا فإن الانتخابات القادمة بعد أربع سنوات، ستكون مختلفة، ليس لأنها ستتمخض عن شخصية جديدة، قد تكون جمهورية، لأن التقليد يقول بأن الحزب الحاكم عادة ما ينجح في الاحتفاظ بالبيت الأبيض لولاية تالية، وقد تكون ديمقراطية، بالنظر الى أن بايدن تولى الرئاسة مرة واحدة، فيما تولاها ترامب مرتين، وإن كانتا غير متتاليتين.
هذه الحالة تعتبر فرصة للطامحين، خاصة من الشباب القيادي في الحزبين، لبدء الإعداد منذ اليوم لخوض غمار المنافسة القادمة، وبالطبع فإن دائرة التنافس ستلفظ على الأرجح من ظهروا على خشبة المسرح السياسي، سواء مع بايدن أو ترامب، والحديث عادة يدور عن نواب الرئيس ووزراء الخارجية، فكثيراً ما كان يتقدم نواب الرؤساء للترشح عن أحزابهم، ومن ثم يظفرون بورقة الترشح الحزبي، بعد أن ينهي الرؤساء الذين رافقوهم ولايتيهم الرئاسيتين، والغريب أن معظم هؤلاء لم ينجحوا، ربما لأن جمهور الناخبين يفضل عادة النجوم الجدد، والذين يمثلون واقعاً آخر قد تشكل خلال السنوات التي أمضاها اولئك النواب في البيت الأبيض، نذكر ديك تشيني الذي كان نائباً للرئيس الجمهوري السادس والأربعين جورج بوش الابن خلال فترة ولايتيه ما بين عامي 2000_2008، والذي نافس باراك اوباما وفشل بالطبع، ثم آل غور الذي كان نائباً للرئيس بيل كلينتون ما بين عامي 1992_2000، وفشل في مواجهة جورج بوش الابن.
أما ريتشارد نيكسون فقد كان نائباً للرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور ما بين عامي 1952_1960، وهو خسر أيضا انتخابات العام 1960 أمام الديموقراطي جون كينيدي، ولكنه عاد ليفوز بمنصب الرئيس عام 1968، وفاز في انتخابات الولاية الثانية عام 1972، في مواجهة المرشح الديمقراطي جورج ماكغفرن، ورغم فوزه بشكل ساحق، إلا أنه اضطر للاستقالة بعد تورطه بفضيحة ووترغيت، بالتنصت على حملة خصمه الديمقراطي، وهكذا فقد أكدت خسارة كامالا هاريس الانتخابات التي جرت قبل شهر تلك القاعدة، لكنها قد تفعل كما فعل ريتشارد نيسكون، وتعود للتنافس بعد أربع سنوات، وقد تنجح، وربما تفعل ذلك أيضا هيلاري كلينتون، التي كانت وزيرة للخارجية في عهد باراك أوباما، وخسرت انتخابات الرئاسة امام ترامب عام 2016، وقد تفعل ذلك أيضا ميشيل أوباما، زوجة الرئيس الأسبق، أو حتى نانسي بيلوسي، وهذا يعني بأن الحزب الديمقراطي يمتلك اليوم مرشحات نساء، أكثر من خصمه، بل هن نجوم الحزب اكثر من رجاله، وقد يعبر ذلك عن صورة للتجديد في الحزب، بملء الشاغر الذي لم يسبق لأميركا وأن فعلته كما هو الحال مع حليفاتها الأوروبيات، أي شغل امرأة للمنصب الأول.
أما الحديث عن الرؤساء الذين تولوا الحكم لمرة واحدة، وفشلوا في البقاء في البيت الأبيض لولاية تالية، فإن استعراض التجارب الأخيرة التي ما زالت ماثلة في الذهن، يشير الى جيمي كارتر الرئيس الديمقراطي لفترة واحدة ما بين عامي 1976_1980، وجورج بوش الأب الجمهوري لفترة واحدة، ما بين عامي 1988_1992، ثم ترامب وقد نجح في تجاوز البقاء ضمن هذه القائمة، وبايدن الذي يغادر دون رجعة، ويقارن بذلك بسلفيه كارتر وبوش الأب، لكنه يسجل إخفاقاً استثنائياً، ففي مقابل أن شهدت ولاية بوش الأب نهاية الحرب الباردة، وتتويج أميركا كزعيم للنظام العالمي أحادي القطب وذلك عام 1990، ومقابل ظهور كارتر في حديقة البيت الأبيض يتوسط كلاً من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغين، وهما يوقعان اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، لم ينجح بايدن في فعل شيء يُذكر، ولا حتى في الجمع بين اسرائيل والسعودية في صورة تبقى على جدار التاريخ، كما كان يتمنى أو يأمل، وجل ما تمناه هو أن ينجح في وقف الحرب على غزة، وتحرير اسرائيل من تهمة حرب الابادة، لكنه نجح أخيراً في خطوة صغيرة، وهي وقف اطلاق النار، وليس وقف الحرب، ووقف محدود لإطلاق النار، لأنه اقتصر على لبنان دون غزة أيضاً.
حتى أن هذا النجاح يسجل لعاموس هوكشتاين، أكثر مما يسجل لبايدن، الذي أخفق مع انتوني بلينكين وزير الخارجية وجيك سوليفان مستشار الأمن القومي ووليام بيرنز مدير المخابرات المركزية، أي مثلث الإدارة الأهم لديه في وقف الحرب في الشرق الأوسط، ومفتاحها وقف الحرب على غزة، وتحرير الرهائن، الذين كان يعتبرهم ورقته للترشح، وكان يمكنه أن يفاخر بأنه سجل في ولايته تحرير الرهائن الأميركيين الذين وقعوا في أسر حماس في السابع من أكتوبر العام 2023، وهكذا وبعد النجاح المحفوف بخطر الانتكاسة، والتي تحمل خطر اندلاع الحرب الإقليمية، فإن مهمة بايدن وإدارته الأخيرة تبدو هي وقف إطلاق للنار في غزة مشابهاً لذلك الذي جرى في لبنان، فهل ينجح في ذلك، ولم يبق أمامه سوى سبعة أسابيع فقط ؟
هذا ما يمنّي النفس به الرئيس الخارج بعد قليل من البوابة الخارجية للمسرح السياسي الأميركي والعالمي بعد أن أمضى حياته في الكواليس، وحين سنحت له فرصة التواجد في مقدمة وسط المسرح السياسي العالمي، ظهر بأنه أقل كفاءة من ذلك الموقع، وقد قال قبل أسبوع بالحرف الواحد، بأن ادارته ستبذل جهدها مع تركيا ومصر وقطر واسرائيل للتوصل الى وقف لإطلاق النار في غزة، مضيفاً القول الذي يفسر هدفه من ذلك الجهد، وهو إطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب في غزة دون وجود حماس في السلطة.
والحقيقة أن خيط الأمل الذي يشير الى احتمال حدوث ذلك، يكمن في عجز نتنياهو عن الدفاع عن وجود جيشه في غزة، إلا بالقول بأن الهدف هو إعادة احتلال القطاع وإعادة استيطانه كما يطالبه بذلك بتسلئيل سموتريتش، حيث لم تعد حماس في السلطة، وإسرائيل اغتالت قيادتها، ولم تعد هناك من أهداف عسكرية، وقد تحولت حماس الى مجموعات مقاومة عصابية، كما حالها في جنين وطولكرم ونابلس، كذلك نتنياهو وسموترتيش ينويان تحقيق رغبة ترامب والانسجام معه، ولا يفكران في مناكفته كما فعلا مع بايدن، والجيش منهك والداخل الإسرائيلي متعب من الحرب، بل إن المعارضة والأغلبية الشعبية حسب استطلاعات الرأي تؤيد وقف النار في غزة أكثر من وقفها في لبنان، ولعل الثمن المباشر لوقف النار في غزة، وهو عبارة عن إطلاق سراح الرهائن على دفعات، يعتبر ملموساً ومباشراً وسريعاً، أكثر من تحقيق الهدف من وقف النار في لبنان، فبعد ساعات من وقف النار في لبنان بدأ النازحون اللبنانيون يعودون لقراهم في الجنوب، فيما مستوطنو الشمال الإسرائيلي عليهم الانتظار 60 يوماً ليعودوا!
ونتنياهو بات قابلاً بصفقة محدودة، لأنه يفكر في وقف النار قبل تسلم ترامب، لكنْ كلاهما_بايدن ونتنياهو_يعتقدان بأن حماس ستقبل ما كانت ترفضه، وذلك بعد إغلاق جبهة إسناد حزب الله، لكن ما قالته قبل أيام صحيفة «وول ستريت جورنال» نقلا عن مسؤولين أميركيين ينفي ذلك، بقولهم بأن حماس لم تظهر علامات على استعدادها لاتفاق في غزة، قبل مغادرة بايدن، ويبدو بأن السبب في ذلك يعود الى أن بايدن يفكر في أن يتولى هوكشتاين تلك المهمة، بما يعني بأن ادارة بايدن ستغادر، بخفّي حنين على الأغلب، وأن معظم نجوم إدارته، هاريس وبلينكن وحتى سوليفان سيدفعون ثمن صورته الباهتة، ولن يجدوا الطريق أمامهم سهلاً في المستقبل باستثناء هوكشتاين، الذي قد يتباهى بأنه الوحيد، رغم أنه كان مجرد مبعوث خاص لإدارة بايدن الذي نجح في انجاز مهمة وحيدة، وإن كانت صغيرة خلال ولاية عابرة لرئيس أميركي ديمقراطي بقي للذكرى.
مع ذلك فإن الأيام القليلة القادمة ستكشف ذلك الأمر، وستكشف إن كان خطر الحرب الإقليمية قد تبدد أم لا، بعد أن خسرت أطراف الحرب، كلها ما خسرت، وحققت ما حققت، خلال حرب لم تنته، وإن كانت تتوقف لالتقاط الأنفاس، والذي يبرر لحماس عدم الحماس لعقد اتفاق وقف للنار، هو أنه لم يعد لديها ما تخسره أكثر مما خسرته، وهي باتت خارج السلطة فعلاً، فيما لم تعد غزة تغري أحداً لحكمها، لأن ذلك يتطلب تولي مهمة في غاية الصعوبة، وهي مهمة إعادة الإعمار وتضميد الجراح الغائرة التي بحاجة لعشرات السنين وليس فقط لعشرات المليارات من الدولارات.