الكوفية:هذا السؤال هو سؤال افتراضي إلى حدّ ما.
والسبب هو أنّ الوضع سيصل إلى درجة معيّنة من ضرورة أن يضحّي أحد بالآخر.
ومن أجل أن تصل الأمور عند تلك الدرجة لا بدّ من «سبر غور» العلاقة التي تربط ما بين تلك «التضحية» وما بين الانتخابات الأميركية وتبعاتها، وصلاتها الإستراتيجية.
بالمعنى التقليدي، والنمط الذي ساد حتى الآن في محاولة فهم هذه العلاقة، درج أهل السياسة وكذلك المتابعون والمحلّلون، وحتى مراكز البحث والدراسة على اعتبار أنّه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تجري الانتخابات الاميركية على وقع الحرب في منطقة الإقليم، وأن تكون هذه الحرب على أشدّها، وبما يمكن أن تكون قد وصلت إليه من تدمير متبادل، ومن «ويلات» كبيرة، وربما كارثية على كلّ أطرافها، وفي المجالات كافّة، ناهيكم عن أنّ هذه الأبعاد كلّها تكون مرشّحة للتمدّد والتوسّع نحو النطاق الدولي الأوسع، والأكبر، والأخطر.
وإذا حدث ذلك، أقصد إذا جرت هذه الانتخابات على وقع الحرب فإنّ هذا سيعني أنّنا أمام وقائع جديدة، وفلسفات جديدة، ومفاهيم انقلبت، ومسلّمات لم تعد مستمرّة، وليست قائمة في الواقع الجديد.
سيقول قائل: ها هو «الغرب»، وها هي الولايات المتحدة تخوض الحرب عَبر وكيلها في أوكرانيا، وكادت تخوض حرباً عَبر وكيلها في تايوان، وها هو «الغرب» كلّه يقف إلى جانبها دون أن يؤثّر ذلك جوهرياً على الواقع السياسي فيه كلّه، ودون أن تمنع هذه الحروب استمرار «خوضها» من قبله بأشكال شتّى من الدعم والمساندة والمشاركات التي وصلت إلى حدود المغامرة، والتورّط المعلن أحياناً، والغامض في أحيانٍ أخرى.
بطبيعة الحال يتّفق الجميع أنّ دولة الاحتلال أهمّ بكثير من أيّ حليف آخر للولايات المتحدة، ولـ»الغرب» لأسباب معروفه، كما يتّفق الجميع، أيضاً، أنه لا يمكنه أن يضحّي بالحليف الإسرائيلي تحت أيّ ظرف من الظروف في المدى المرئي كلّه، في حين يمكن لهذا الغرب أن يضحّي بكل أنواع الحلفاء إذا حتّمت عليه الظروف مثل هذا الأمر، ومهما كانت أهمية هذا الحليف.
وسواءً كان هذا الحليف مجرّد دمية سياسية، أو قاعدة متقدّمة، أو ضرورة اقتصادية أو سياسية فإنّ «الغرب» يمكنه المناورة، والمداورة والمساومة للإبقاء على هذا النوع من الحلفاء بالقدر المطلوب طالما أنّ ذلك كان متاحاً وممكناً، لكنه ليس مستعداً أن يخوض صراعاً مصيرياً للاحتفاظ بمثل هذا الحليف إلّا إذا كان هذا الحليف بنفس درجة أهمية دولة الاحتلال أو أكثر.
ولذلك فإنّ «الغرب» ممثلاً الآن، وفي هذه المرحلة تحديداً بالولايات المتحدة يبدو بأنّه بات «مجبراً» على التعايش ما بين الحرب التي تدور الآن في الشرق الأوسط، والتي يبدو أنّها ستدور بصورة أكثر شدّة وضراوة، وبما هو أكبر وأخطر من الأبعاد القائمة الآن، وما بين عقد الانتخابات الأميركية.
باستثناء فترة الحرب العالمية الثانية فإنّ الولايات المتحدة تعيش للمرّة الأولى في تاريخها المعاصر مثل هذا الوضع الفريد. وبرأيي أنّ الحرب في الشرق الأوسط، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة ستحتلّ أهمية أكبر مما كانت عليه «مسألة» السياسة الخارجية في أيّ مرحلةٍ سابقة، بما فيها «أزمة الصواريخ الكوبية» في العام 1962، وأكثر من أيّ أوضاع سابقة من حروب الشرق الأوسط نفسه، بما في ذلك «حرب أكتوبر» في العام 1973، و»حرب الأيّام الستّة» في العام 1967، وهناك من يعتقد بأنّ حرب عام 1948 لم تكن بهذا القدر من الأهمية التي تراها، وتعوّل عليها الولايات المتحدة، وبالارتباط تحديداً بالمصالح الإستراتيجية الأميركية على الصعيد الدولي الشامل.
ما هو تفسير أن تجري الانتخابات على وقع الحرب؟ وكيف يفترض أن تقرأ ذلك في رؤية أوضاع، ومستقبل الإقليم؟ لو كان وقف هذه الحرب الآن، وقبل عقد هذه الانتخابات ممكناً، وكان هذا الوقف الفوري والمباشر لهذه الحرب في مصلحة الولايات المتحدة، وفي مصلحة دولة الاحتلال، لما تردّدت الإدارة الأميركية في وقفها مباشرة.
هذا الاستنتاج الذي أراه منطقياً تماماً يعني بالمنطق العملي، والواقعي المباشر أنّ ثمّة ما يمنع هذا الوقف، وأنّ ثمّة ما يجب استكماله، وأنّه من دون هذا الاستكمال هناك ما هو سيئ، إلى درجة كبيرة وخاصة قبل هذا الاستكمال. أقصد أنّ العجز الإسرائيلي عن الحسم والانتصار، أو ربّما درء الهزيمة هو أوضح ما تتمكّن الولايات المتحدة من تجاهله، أو التستّر عليه.
ربّما أنّ «الردّ» الإسرائيلي على الضربة الإيرانية، والتي من الواضح أنّها كانت موجعة إلى حدّ كبير سيتم قبل الانتخابات، وهو الأمر الذي يعني أنّها باتت على الأبواب، وأنّها يمكن أن تتمّ في أيّة لحظة، من هنا وحتى يوم الانتخابات الأميركية الموافق الثلاثاء 1/11 القادم.
وقد تكون الولايات المتحدة، ومعها دولة الاحتلال تراهنان معاً على نتائجها لكي تجري على وقع عمليات استعراضية مبهرة إعلامياً علّها تساعد على أن تكون عاملاً مهما في الاستثمار السياسي للحرب.
الحقيقة أنّ الاستثمار السياسي للحرب مسألة ليست بهذه السهولة التي يتحدّث بها ــ سرّاً في بعض الأوساط ــ الرئيس الأميركي وإدارته، والحقيقة، أيضاً، أنّ رئيس حكومة الاحتلال الفاشية بات قادراً على لعب ورقة الانتخابات على الوجهين في الوقت نفسه.
فإذا خسر نتنياهو ورقة الردّ الإسرائيلي على الضربة الإيرانية يكون قد «ضحّى» بالإدارة الأميركية للحزب الديمقراطي، ويستعدّ «لاستكمال» مهمّة الانتقال من حربٍ إلى أخرى إلى ما لا نهاية لأنّه فقد القدرة على وقفها.
وإذا جاء دونالد ترامب، ونجح ضدّ كامالا هاريس، فسيحاول استكمال الحرب بأيّ ثمن.
الحسابات ستكون مركّبة للغاية. لا يستطيع بايدن أن يضحّي بـ»نتنياهو» قبل الوصول إلى نتائج حاسمة لهذه الحرب، ولكنه قد يضحّي به إذا كانت هزيمة دولة الاحتلال مدوّية، واستطاعت هاريس أن تفوز بالانتخابات، لأنّه في هذه الحالة لا تستطيع الولايات المتحدة المغامرة أكثر ممّا غامرت حتى الآن في وضع تراجع دور ومكانة الدولة العبرية في كامل الإقليم، وهي مضطرّة لإعادة حساباتها، ولإعادة تنظيم صفوف وجودها في الإقليم، وهي لا تستطيع أن تستمرّ في نفس سياسة اللحاق بـ»اليمين الفاشي» الإسرائيلي.
مسألة العلاقة المستقبلية بين نتنياهو وترامب، في حالة نجاحه «تحتاج إلى قراءات غير تقليدية ما زالت قيد التفكير في الأوساط الإسرائيلية والعربية، وحتى العالمية، وهي تحتاج إلى نمطٍ من التفكير من خارج الصندوق على كلّ حال، وتحتاج إلى معطيات ليست متوفّرة بعد.
وخلاصة القول إنّ مسألة من يضحّي بمن ما زالت رهينة لتطوّرات الحرب ونتائجها، وهي مسألة تحتاج منّا إلى فهم أبعاد «طوفان الأقصى» بصورةٍ أعمق من بعض محاولات التعامل معه بخفّة، وبسطحية أحياناً، ومن دون التعمّق في أبعاده ومفاعيله الجوهرية، وليس بعض تبعاته، ومظاهره الخارجية.