الكوفية:أثبتت هذه الحرب عددا من المعطيات المهمة لوضعها بعين الاعتبار عن دراسة مستقبل هذه المنطقة. أول تلك المعطيات أن إسرائيل ليست إلا قاعدة أميركية هدف وجودها الأساسي في قلب الوطن العربي ضمان تبعية منطقة الشرق الأوسط للسياسة الأميركية وخدمة لمصالحها. لا تبالي الولايات المتحدة بعدد الضحايا الذين يسقطون، طالما يخدم ذلك الهدف العام مصالحها. في أوكرانيا، تمت التضحية بآلاف المدنيين الأوكرانيين بهدف ردع روسيا. وفي فلسطين ولبنان، لا يشكل المدنيون إلا وقود حرب تضمن بقاء وقوة إسرائيل في معادلة القوى في المنطقة. وفي الحرب الإيرانية العراقية، دعمت الولايات المتحدة الأميركية البلدين عسكريا، لإضعافهما، حيث خلفت تلك الحرب أكثر من مليون قتيل. في معادلة الصراع بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، استثمرت إيران بمكانتها وقوتها الجيوسياسية في المنطقة، فدعمت امتدادها الشيعي وحملت شعار دول المقاومة التي تعاني من الاحتلال والاعتداء الإسرائيلي المدعوم أميركيا، لكسبهم في صفها، فنجحت في بناء حلف مساند، في حين عملت الولايات المتحدة وإسرائيل للتغطية على الضعف الجيواستراتيجي لإسرائيل، العميل الاستراتيجي التابع لها في المنطقة في كسب أحلاف لها فيها، فركزت على سياسة التطبيع، واهتمت بشكل خاص بدول الخليج، جيران إيران التاريخيين، كما اعتمدت أيضاً على الاختلال في معادلة القوة في المنطقة، بما يضمن قوة مطلقة لإسرائيل فيها على المستوى العسكري والتكنولوجي على وجه التحديد، وهو ما نشهده في الحرب الدائرة، اليوم. فغزة ولبنان والعراق واليمن وإيران تشتبك فعلياً مع القدرات الأميركية الغربية العسكرية والتكنولوجية. إن الهدف الذي دعت إليه الولايات المتحدة قبل سنوات لتحقيق شرق أوسط جديد، يتقاطع مباشرة مع ما يعلنه نتنياهو حالياً بتغيير معادلات المنطقة، يتحقق بشكل أساسي بالقضاء على أي معارضة لسياسات الولايات المتحدة وإسرائيل فيها. لذلك تركز إسرائيل، اليوم، على تدمير أو ردع أي قوة معارضة لها في المنطقة، بدءاً من فلسطين مروراً بلبنان وسورية والعراق واليمن وصولاً لإيران، وإن اختلف هدف كل جهة منهم. من الواضح أن أهداف الولايات المتحدة في المنطقة، ووجود إسرائيل فيها، على حساب شعوب المنطقة الأصليين ومصالحهم، وأكبر دليل على ذلك، الجرائم التي تقترف من قبل البلدين بحق الأبرياء، تفرض على بلدان المنطقة النظر بحرص للدور الأميركي فيها، وخطر التحالف معها، خصوصا في ظل قوى دولية صاعدة جديدة، لا تحمل ذلك العداء والدموية لأهل المنطقة. وعلى الرغم من كل عوامل القوة التي تمتلكها الولايات المتحدة وإسرائيل، خصوصا الجانب العسكري والتكنولوجي، من الممكن إحباط ذلك العامل من القوة، بشكل سلمي وبدون الحاجة لأي اشتباك عسكري، وذلك بوقف أو تعطيل عامل القوة الثاني الذي تمتلكه الولايات المتحدة وإسرائيل، أو تسعى لامتلاكه وهو عامل التطبيع، والذي يجب النظر إليه ضمن عامل الحرص والمصلحة على مصالح المنطقة ككل. وأثبتت التجارب فيما يتعلق بالفلسطينيين، أنهم وقعوا أولاً ضحية مباشرة لاستهداف غربي واسع للمنطقة، حيث تمت إقامة إسرائيل، والمشكلة الثانية كانت بالسعي لعزل القضية الفلسطينية عن سياقها العربي، لإضعافها. فأكبر مشكلة في اتفاق أوسلو على سبيل المثال كانت في اختلال ميزان القوة بين الفلسطينيين والاحتلال، ولا أقصد بالقوة فقط تلك العسكرية، فالقوة السياسية للفلسطينيين أكثر أهمية، والتي تنبثق في الأساس من الامتداد العربي وعلاقة مع الامتداد العربي. فعزل الفلسطينيين وقضيتهم عن السياق العربي، أضعفها. إن ذلك يفسر مدى المعاناة التي دفعتها القضية الفلسطينية عندما ربطت الولايات المتحدة مصالح دول مركزية عربية في المنطقة وأخرى مجاورة لفلسطين بها.
من أهم الملاحظات التي يجب وضعها في الاعتبار أن الشعب الفلسطيني ورغم كل هذه المعاناة التي عاناها منذ مطلع القرن الماضي حتى اليوم، لم يتوقف عن المطالبة بحقه، ولم يقبل بالمخططات التي حيكت ضده، ولم يستسلم يوماً، رغم جميع المحاولات في سلبه لأي أوراق قوة يمتلكها، ما يعني أن هذه المنطقة لن تشهد استقرارا أو هدوءا إلا إذا حصل الفلسطينيون على حقوقهم.
وهناك قضية أخرى ترتبط بإيران ودورها في المنطقة، ومعادلة التوازن. لا بد من التأكيد على أن إيران تعمل في المنطقة كقوة فيها من أجل مصالحها في الأساس. ومنذ صعود الثورة الإسلامية في العام ١٩٧٩، تناقضت مصالحها مع الولايات المتحدة، التي اتخذت موقفا عدائيا من هذه الثورة وخسارتها لنظام الشاه الذي كان من أهم حلفاء الولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة. فلم تكن هناك علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين بعد الاستيلاء على السفارة الأميركية، وقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في العام التالي للثورة وليس هناك سفارة لإيران في واشنطن حتى اليوم. في تسعينيات القرن الماضي، وبعد الحرب العراقية الإيرانية، قررت إيران تطوير قدرتها النووية، على غير الرغبة الأميركية، فاستعانت بروسيا والصين لتحقيق ذلك. وفي العام ٢٠٠٢ جرى الكشف عن وجود موقعين نوويين، حيث بدأت الجهود الأميركية الغربية لوقت تقدم البرنامج. تعاملت إيران بدبلوماسية، ولم تتحدَ صراحة تلك الجهود، وأكدت على مساعيها للحصول على الطاقة النووية السلمية. إلا أن الشكوك تصاعدت حول تلك النوايا، وأدينت في العامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٥ لعدم التزامها بالتعامل بشفافية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتبنى مجلس الأمن القرار رقم ١٦٩٦ في العام ٢٠٠٦ الذي دعا إيران لتعليق برنامج تخصيب اليورانيوم لأول مرة، وكان مقدمة لصدور عدد من القرارات بعد ذلك فرضت عقوبات على إيران لعدم التزامها بتعليق أنشطة التخصيب. ما بين العامين ٢٠١١ و٢٠١٥ نشطت التفاعلات الدبلوماسية بين إيران ومجموعة الـ ٥+١ والتي انتهت بتوقيع اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة في العام ٢٠١٥، في عهد الرئيس الأميركي أوباما، والتي واجهت معارضة شديدة من قبل إسرائيل، بقيادة رئيس وزرائها نتنياهو. ودعت الخطة لخفض إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسب عالية لمدة ١٥ عاما، وتخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي بنسبة الثلثين لعشر سنوات، وتسهيل مهمة المفتشين الدوليين على البرنامج، مقابل خفض العقوبات تدريجيا عن إيران، وبالفعل صدر القرار رقم ٢٢٣١ الذي مهد لذلك، وفي العام ٢٠١٦ بدأ خفض العقوبات بالفعل عن إيران. بعد صعود دونالد ترامب للحكم انسحب من خطة العمل المشتركة بشكل أحادي، وأعادت إدارته فرض العقوبات على إيران في العام ٢٠١٨، وحذرت حلفاءها من مواصلة التعامل مع إيران. وفي العام التالي، صنفت الولايات المتحدة الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وهي المرة الأولى التي تصنف فيها الولايات المتحدة جزءا من حكومة أجنبية على هذا النحو، ونشرت قاذفات «بي-52» القادرة على حمل رؤوس نووية، ومجموعة حاملة طائرات، وبطاريات صواريخ باتريوت إضافية في الشرق الأوسط، ونشرت الولايات المتحدة 2500 جندي إضافي في الشرق الأوسط لردع إيران. خلاصة القول، لا مجال لإمكانية تحالف إيران مع الولايات المتحدة وإسرائيل في ظل النظام الإيراني الحالي. إلا أن استراتيجية إيران تقوم على محاربة أعدائها بعيداً عن أرضها، لذلك ركزت على تحقيق ذلك من خلال حلفاء لها في المنطقة، تقاسموا معها العداء لإسرائيل والولايات المتحدة. ومن الملاحظ أيضاً، أن إيران تحاول قلب المعادلة التي صقلتها الولايات المتحدة للمنطقة من خلال التحالفات والتطبيع، عندما عملت إيران على تطوير علاقاتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع دول المنطقة، على رأسها دول الخليج. وشهدت الساحة الدبلوماسية في المنطقة منذ العام ٢٠١٩ حراكا تصالحيا مهما ضمن ذلك الصعيد، وهو ما نشهده حالياً أيضاً خلال هذه الحرب، والحراك الدبلوماسي الإيراني، لإقناع دول المنطقة بعدم الانخراط في هذه الحرب، لصالح الأجندة الغربية.