كما لو كانت دولة مجهرية، لا يسمع بها أحد إلا عند التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، تبدو أقوى دولة في العالم، التي تقود النظام العالمي، الولايات المتحدة الأميركية بجمهورييها وديمقراطيها، بإدارتها المنصرفة بعد أسابيع، وإدارتها القادمة بعدها، وذلك في موقفها المناهض للقضاء الدولي، وذلك لأن محكمة الجنايات الدولية اتخذت قراراً مخففاً، وبعد وقت طويل من التداول، تعرضت خلاله المحكمة لضغوط أميركية ومحاولات إسرائيلية لعرقلة عملها، وكان القرار يخص الدولة المارقة، إسرائيل، وذلك رداً على حرب الإبادة التي تقوم بها منذ نحو أربعة عشر شهراً في قطاع غزة، مع ما يرافقها من جرائم حرب في كل من الضفة الفلسطينية ولبنان، ومن عدوان على أكثر من بلد، باختراق سيادته بشكل مستمر، من اليمن إلى إيران، مروراً بلبنان وسورية.
والحقيقة أن القرار الخاص بإصدار مذكرتَي اعتقال بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه المقال يوآف غالانت، هو رد مخفف على جريمة حرب الإبادة، حيث ما زال مطلوباً من المحكمة أن تبتّ في الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا مدعومة بعدد كبير من الدول، التي تتهم دولة الاحتلال بتنفيذ حرب إبادة متواصلة منذ أكثر من عام، وذلك رغم قرار المحكمة السابق بوقف الحرب، ورغم قرار سابق لمجلس الأمن يطالب إسرائيل بوقف الحرب أيضاً.
وبالعودة إلى الموقف الأميركي، فقد اعتبر «البطة العرجاء» الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن قرار المحكمة مشيناً، وهو نفسه الذي كان رحب بقرار مشابه للمحكمة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبقرار آخر صدر عن المحكمة بحق الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير، فيما رفض البنتاغون قرار المحكمة، وكأنه فوق القانون، وربما يعود ذلك إلى كونه رمزاً لقوة البطش والجبروت العالمي، أما إدارة الرئيس المنتخب والمجرب من قبل دونالد ترامب، فقد عبرت عن نفسها بما هو أسوأ مما قاله بايدن والبنتاغون بالخصوص، وذلك حين قام المكلف بمهمة مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب القادمة، مايكل والتز بمهاجمة المحكمة الدولية واعتبرها تفتقر للمصداقية، واعتبر الإدارة الأميركية «فوق» القضاء الدولي، حيث أشار إلى أن الاتهامات الموجهة لنتنياهو وغالانت سبق وأن دحضتها الإدارة الأميركية، وأكثر من ذلك هدد القضاء الدولي، قائلاً: إنه يمكن توقع رد قوي في كانون الثاني، ضد المعادين للسامية (هكذا وصف المسؤول الأميركي المقبل أعلى محكمة دولية مقاماً وشأناً)، ويقصد بالطبع موعد تسلم ترامب إدارة البيت الأبيض، ومعتبراً القضاء الدولي معادياً للسامية!
مجدداً إذاً تنخفض واشنطن بمستواها إلى الحضيض، وهي تواصل التأكيد على عدم جدارتها ليس فقط بزعامة أو قيادة النظام العالمي، بل حتى بأن تكون واحدة من خمس دول تقود النظام العالمي، وذلك من خلال امتياز حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، وقد تأكد ذلك مجدداً، حين تابعت مسلسل استخدامها ذلك الحق البغيض، لتبقي الطريق مفتوحاً لمجرمي الحرب الإسرائيليين لمواصلة حرب الإبادة في غزة ولبنان والضفة الفلسطينية، وذلك حين أحبطت في اليوم السابق لليوم الذي أصدرت فيه محكمة لاهاي قرارها بحق نتنياهو وغالانت، مشروع قرار يطالب بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تقدمت به عشر دول أعضاء في مجلس الأمن، وأيدته كل الدول الأعضاء بالمجلس الذي يعتبر حكومة العالم، أي الأربع عشرة دولة، باستثناء الولايات المتحدة الأميركية فقط!
إن أميركا ببلاهتها السياسية، المتمثلة في الاصطفاف الأعمى إلى جانب إسرائيل، الدولة الوحيدة في العالم التي ما زالت تنتمي لعصر الاستعمار، وتحتل أرض دولة أخرى عضو في الأمم المتحدة، تلك الدولة التي يريد كل العالم، باستثناء إسرائيل وأميركا، أن يراها قائمة ومتحررة من الاحتلال، لأن في ذلك يكمن مفتاح الأمن والسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، الذي يعتبر مركز العالم، خاصة لجهة مد الدول الصناعية بالطاقة، والبلاهة الأميركية تقوض مكانة أميركا العالمية، خاصة مع ازدياد القناعة الدولية، بحاجة العالم إلى نظام عالمي أكثر عدالة وقدرة على حماية البشرية من حرب نووية محتملة، تؤدي إلى فنائها، ولا خيار أمام أميركا في نهاية المطاف إلا أن تختار بين أن تنكفئ داخل حدودها، وتتحول من دولة كونية عظمى تسيطر على العالم إلى دولة إقليمية عظيمة، وذلك في قارتَي أميركا الشمالية والجنوبية فقط، وذلك في حال واصلت الاصطفاف إلى جانب إسرائيل في مواجهة العالم بأسره، ليس فقط فيما يخص الرأي العام وحسب، ولكن إزاء ما يقرره القضاء الدولي، والمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الجمعية العامة ومجلس الأمن وكل مؤسسات الأمم المتحدة.
أما إسرائيل، فإن حربها المجنونة على غزة قد أكدت للقاصي والداني أنها دولة مجرمة، ذلك أن إدانة نتنياهو وغالانت، إنما هي إدانة لإسرائيل، ويعود ذلك للصفة التي يتمتع بها الرجلان، بكونهما رئيس حكومة ووزير جيش دولة إسرائيل، وليسا قائدَي عصابة أو مجموعة مسلحة مثلاً، مع إضرارها على مواصلة احتلال أرض دولة فلسطين، وانتقالها من حالة الدولة الصهيونية الحليفة للغرب، بعد تحولها من حكم اليسار إلى حكم اليمين، ثم من اليمين العلماني إلى اليمين اللاهوتي/ الديني، الذي بدأ يرفع شعارات دولة إسرائيل الكبرى، أي الدولة التوراتية/اللاهوتية بحدودها الإقليمية العظمى، من الفرات إلى النيل، فإنها تحكم على نفسها، ليس فقط بالبقاء على حالة العداء مع الشعب الفلسطيني الذي سيظل يقاوم الاحتلال بهذا الشكل أو ذاك، بل إنها ستواجه عداء متواصلاً من قبل كل شعوب الشرق الأوسط، العربية والإسلامية، وليس بدافع التعاطف مع الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره، بل بدافع الدفاع عن حقوقها الوطنية في مواجهة الأطماع التوسعية الإسرائيلية، ولعل الحرب الدائرة منذ أكثر من عام كشفت هذا الأمر جلياً، ووضعت إسرائيل في حالة حرب مع شعوب لبنان وسورية، اليمن والعراق وإيران، بشكل مباشر.
أما على صعيد مكانة إسرائيل في العالم، فحدّث بلا حرج، فقد ظهر للعالم بأسره مدى الخطورة التي تمثلها إسرائيل، ليس فقط بخروجها عن الإرادة الدولية، ورفضها الانسحاب من أرض دولة فلسطين، بل في اعتمادها القوة العسكرية فقط، في مواجهة صراعاتها مع جيرانها، الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، الذين تحتل أرضهم، أرض دولة فلسطين كاملة، والجولان السوري، وثلاث عشرة منطقة حدودية من أرض لبنان، وأكثر من ذلك تفترض أن لها الحق بأن تخترق أجواء سورية ولبنان، وأن تشن عليهما الغارات، وأن تدمر وتقتل من وما تشاء في سورية ولبنان، وأن تلاحق وتقتل وتدمر ما تريد ومن تشاء في فلسطين، كل ذلك بحجة الدفاع عن أمنها، وبدافع عنصري إرهابي، ذلك أن إسرائيل لا تقر أبداً بنفس الحقوق التي تريدها لنفسها للآخرين، بما في ذلك بالطبع حق الحياة للبشر، جماعات وأفراداً، ثم ما زال الإسرائيليون وكثير من الأميركيين يرددون، بشكل ممض ومقرف، مقولة معاداة السامية، وهم في الحقيقة يقلبون الحقائق، لأنهم بتلك المقولة يعبرون عن معاداتهم للإنسانية.
وإسرائيل باتت اليوم دولة منبوذة، وحالتها تشبه إلى حد كبير ما كان عليه حال دولة جنوب إفريقيا إبان نظامها العنصري، حيث كانت بريطانيا فقط تصطف إلى جوارها في مواجهة العالم، الذي كان يطالب بإسقاط النظام العنصري، فيما تشبه أميركا اليوم بريطانيا الأمس، في اصطفافها إلى جانب إسرائيل في مواجهة العالم، الذي يريد إنهاء احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين، لكن ما زال هناك أفق أخير أمام كل من الأميركيين ليبقوا على مكان لهم في عالم متعدد الأقطاب، يتمثل في الأخذ بيد إسرائيل ذاتها لتجاوز حكم اليمين الديني، وإعادة إسرائيل إلى حدود الدولة التي اعترفت بها الأمم المتحدة العام 1948، أي بتحريرها من الاحتلال الذي يبقي على حالتها الاستعمارية، ويفتح شهيتها للتوسع، والرغبة في التسلط والتفوق على الشرق الأوسط، فيما يمكن للإسرائيليين أن يتخلصوا من نتنياهو وكل مسيرته التي أوصلتهم إلى هذه النقطة الحرجة.
ويكون ذلك بالعودة إلى مسار الحل السياسي، الذي يفضي إلى إنهاء احتلال أرض دولة فلسطين، تمهيداً لإقامتها، بصرف النظر إن كان ذلك بالعودة إلى مسار أوسلو، أو غيره، من أساس حل الدولتين، وبذلك يضعون حداً نهائياً لتحكم اليمين الديني بمستقبل دولتهم، بزجها في أتون العداء مع كل الشرق الأوسط، بما يحلم به من أطماع توسعية تؤكد أنها ما زالت دولة استعمارية لا مكان لها في عالم اليوم، عالم ثورة الاتصالات والفضاء الكوني، الذي صارت الحروب العالمية وراء ظهره، وصار أكثر تجانساً ووعياً، وعمقاً إنسانياً، والأهم أكثر تطلعاً للعدالة الدولية، والمساواة بين البشر، شعوباً وأفراداً.