فريد ترمب والد دونالد ترمب هو ابن لأبوين ألمانيين هاجرا للولايات المتحدة، وقد تزوج فريد الأب من مهاجرة اسكتلندية لينجب الابن دونالد، هكذا هو نتاج مشروع مهاجرين كجزء من تركيبة الدولة الأميركية التي قام المهاجرون إليها بقتل وطرد سكان البلاد الأصليين وهي دولة قامت على هؤلاء، فكل الأميركيين مهاجرون باستثناء قبائل الإزتيك والمايا والشيروكي وغيرها التي تمت إبادتها، ووضع من تبقى منهم في معازل.
وها هو سليل المهاجرين يريد طرد المهاجرين الجدد من الولايات المتحدة لكنه يعطي هذا الحق لنفسه وتلك واحدة من غرائب الولايات المتحدة.
ولكن الأغرب أن هذا الذي يطرد المهاجرين من بلاد ليس أصيلاً فيها يريد تهجير الفلسطينيين الأصليين في بلادهم، كيف يمكن فهم هذه بمعزل عن هلوسات دعوة ترمب الشعب الأميركي لشرب الكلور لمقاومة الكورونا، ومن حسن حظه أنه لم يفعلها وإلا لشهدنا موتاً جماعياً في أميركا.
لن تكف أميركا عن إدهاشنا، وهي تهدينا كل هذه السخرية والإثارة كما درجت العادة في أفلام هوليوود.
لكن الحقيقة أنه إذا كان الرجل ساخراً علينا أن نأخذ تلك الفهلوة بدرجة كبيرة من الجدية.
فقد بات الرجل يتحدث عن التهجير بعلنية وكأنه جزء من السياسات الأميركية القادمة كحل ملتوٍ للصراع بدل حل الدولتين وتحقيق السلام في المنطقة، لكنه منطق تاجر العقارات وكما يقولون إن المهنة تصنع سلوك البشر.
هكذا يدير ترمب السياسة وبضمنها مثلاً أنه يعتبر أن رجال الاقتصاد الناجحين هم الأكثر كفاءة في إدارة السياسة لذا أحاط نفسه بالمستثمرين وأبرزهم ايلون ماسك.
الرجل مسكون بعظمته الشخصية ويعتقد أن التاريخ أعاد له المفاتيح ليعيد تركيبه كما يشاء، ولكن في حقيقة الأمر كما يشاء الإسرائيلي أو كما يخطط بالدبابة على الأرض فلا شيء مصادفة فيما يفعله، كأنه يعمل على إزاحة الفلسطيني، وتأتي أفكار ترمب كتتويج للفعل الإسرائيلي وليست من اختراعاته وحده.
يتحدث ترمب عن تهجير 60% من سكان قطاع غزة، وهي لافتة لارتباطها بالفعل الإسرائيلي على الأرض الذي اختبرت فيه نتائج فعلها، فعودة السكان للشمال كانت صادمة فقد عاد بعضهم للجنوب بحثاً عن الحد الأدنى من مقومات الحياة. وتلك بروفة كانت تعرف أنها نموذج لهجرة طوعية أي تعدم ممكنات الوجود على الأرض فيتركها الناس باحثين عن حياة وهذه لم تكن مصادفة.
الرقم الذي يطرحه ترمب يقصد به اللاجئين من القطاع وإبقاء أبناء غزة الأصليين فيه وهم غير المسكونين بحق العودة ببساطة لأنه لم يجرِ اقتلاعهم من بلداتهم ومدنهم الأصلية العام 48.
ومن يدقق بما جرى في القطاع وسحق مناطق معينة سحقاً نهائياً يدرك ما الذي كان يفعله الإسرائيلي، فقد جرى التركيز على المخيمات الفلسطينية في حرب الإبادة، فمخيم جباليا مثلاً تمت تسويته بالأرض وهو أكبر المخيمات الفلسطينية يحتوي على 116 ألف لاجئ وفي بداية الحرب تعرض مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة لخمسمائة ضربة في ليلة واحدة، أما في رفح فقد قامت إسرائيل بمسح المخيمات جميعها وكذلك مخيم خان يونس ولم يبقَ سوى مخيمات المنطقة الوسطى الثلاثة التي تعرضت لضربات شديدة، لكن جيش إسرائيل لم يجتحها، لم يكن التدمير كباقي المناطق، وتلك المخيمات التي تكدس بها اللاجئون لكنها لا تتسع لهذا العدد ولا يمكنها أن تستمر بالشكل الذي أعدمت فيه إسرائيل البنية التحتية للقطاع.
هل كانت تلك مصادفات ؟ في السياسة الإسرائيلية تندر المصادفات خصوصاً حين يتعلق الأمر بمشاريع استراتيجية ضد الفلسطيني الذي تزاحمه على الأرض.
وهكذا يتضح أحد أهداف أسرائيل الذي لم يكن معلناً في هذه الحرب، ففي بدايتها جرى التلميح له ومن الغريب أن تصدر وزارة الاستخبارات الإسرائيلية في الثالث عشر من أكتوبر بعد الحرب بستة أيام تقريراً يطرح التهجير كخيار ويتم رفعه للنقاش في الكونغرس وهو ما حاولت استطلاعه إدارة بايدن من خلال وزير خارجيتها قبل أن يصطدم بالرفض المصري، وهو ما عاد ترامب للحديث عنه بلغة خلت من الدبلوماسية وهو يشير لمصر والأردن ثم يأتي الخيار السوري وقبلهما خيار أندونيسيا.
خطة الجنرالات لم تكن سوى جزء من المشروع، هكذا تصنع إسرائيل سياستها من خلال مراكز البحث والعقول بعكس الحالة العربية والفلسطينية التي لا تتعاطى سوى مع عقل الفصائل على علاتها.
لكن الأهم أن مشروعاً بهذا الخطر وهذا الوضوح الذي يهدد الجميع فلسطينياً لا بد من مواجهته، وهذا لا يتم إلا بالعقل الجمعي والفعل الجمعي، لذا يمكن أن نطلب تشكيل غرفة عمليات مشتركة من الجميع، ينحون أزماتهم جانباً أمام هذا العنوان المشترك وهو كيفية منع التهجير.
السبب الوحيد الذي يجعل الناس ترحل هو انعدام الحياة وتحويل المكان لبيئة طاردة للحياة، وهو ما فعله الإسرائيلي تماماً. فالأبناء لم يعودوا للمدارس بعد الهدنة وهذا نموذج مفزع ومثال فقط، ما يعني أن التصدي للمشروع ليس بالبيانات كما تفعل الفصائل ومنظمة التحرير بقدر وضع كل الإمكانيات لإيجاد حياة للمواطن في غزة، إمكانيات حماس وفتح ومنظمة التحرير وصندوقها القومي وكل إمكانيات الشعب الفلسطيني في الخارج لكن شريطة أن تقف حماس بحزم أمام التجار الذين يصادرون ثلث المبلغ الذي يتم تحويله من الخارج للأهالي، فتلك كانت واحدة من فضائح الحرب منعت الكثيرين من إرسال الأموال وأضعفت الصمود، في هذا الموضوع لا مجال للاختلاف لأن عنوانه «نكون أو لا نكون» فهل نستطيع كلنا؟